Saturday, 9 February 2008

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (7)


شهران كاملان وأنا اكتب بقلم الحنين ومداد الذكرى حكاياتنا بحنتوب الجميلة.. ولقد طوَّفت اسرتنا مع والدي المعلم فجاج السودان.. فجا فجاً، وتنقلت وإخوتي من مدرسة لأخرى.. ذهب والدي إلى رشاد في اقصى جبال النوبة الشرقية فبدأت دراستي هناك، وشاءت مشيئة الله ان اعود لتلك الديار محافظاً. وقد زرت حال وصولي مدرستي القديمة عند خصر الجبل، فجاش في جوانحي شلال النوستالجيا.. ثم جاش مرة أخرى وانا أقف بعد زهاء (40) عاماً امام منزل ابي القديم بكتم بشمال دارفور حيث أكملت المدرسة الأولية.. وبين رشاد وكتم وحنتوب وجامعة الخرطوم وداد وألفة وتشابه.. فالغمام في رشاد كان يدخل لمكتبي من النوافذ، ورزاز المطر ينهمر حالماً وخفيفاً لمدة أسبوع بلا انقطاع، فتأمل.. وكتم مدينة الضباب والجليد الثانية بعد لندن.. وجامعة الخرطوم هي (أم لبخ) كما يحلو لصديقنا د.صديق أمبدة تسميتها.. عتيقة الاخضرار سامقة الأفياء والشجر.
بعد هذه الرحلة الخضراء كانت بريطانيا.. حللت جامعة برمنجهام فألفيتها جنة الله في الأرض.. جامعة تحفها الينابيع والبحيرات والوزين والبط الداجن.. ثم جامعة لندن، وما ادراك ما لندن.. هكذا مضى بنا قطار الدراسة من جنة الى جنة.. غير ان لحنتوب طعما آخر وأثرا في النفوس بعيد.. اثر لا يبرح ولا يزول.. هذه الفجاج الجميلة: "كلها من نخلة واحدة ولكن العجوة غير البلح"..
كانت حنتوب العجوة وما سواها البلح.. كلنا من نخلة واحدة قالها زعيم المتصوفة عبد الغني النابلسي "انا في المذكور والغافل في الذكر)... ويسألونك: ما الذي شكل جوانحك فغدوت شاعراً؟..... وما دروا ان الشاطئ يلهم، والخضرة تلهم، والشجر يلهم... وللناس وكل خلق الله قبائل.. وقد توطنت قبيلة طير الهدهد حنتوب وأنحاء حنتوب مما حدا بمستر براون ان يجعل الهدهد رمزاً للمدرسة، فطبعت صورته في الديباجة القماشية التي كنا نضعها على جيب القميص الأبيض.. كما تم تصنيع دبوس برونزي عليه رأس الهدهد، اكثر ظني في لندن.. ولا يزال بعض زملاء ذلك الزمان يحتفظون بتلك الرموز الصغيرة الجميلة، ومنهم الأستاذ بلة العوض.. والهدهد طير انيق جميل ملون الريش، ارتبط بنبي الله سليمان، وقد توعده بعذاب الذبح عقاباً لغيابه دون اذن، ولما جاءه بنبأ سبأ اسقط عنه العذاب.. وفي الأثر يذكر المفسرون ان سليمان النبي توعد الهدهد بعذاب يفوق الذبح ولما تساءل الهدهد عن العذاب الذي يفوق الذبح.. قال سليمان النبي: "اجبرك على العيش وسط قوم يجهلون قدرك"، فتأمل بالله عليك الفرق بين العذاب الحسي والعذاب النفسي.
وكنت وقد حللت محافظاً على رشاد بجبال النوبة كثير الدهش والعجب عن القوة الخارقة لعروق الشجر.. فهي بجانب العلاج تفعل بعض الخوارق المذهلة الأخرى، ولم يكن الموضوع تلك المرة نقلاً عن مبالغ يجيد الدراما ولكن رأي عين.. وكان بروفيسور مصطفى محمد سليمان قد اقترح إقامة مؤتمر للعروق السودانية بـ(مايرنو) لتصنيف وتسجيل العروق المداوية والعروق الخارقة، مع الاستفادة من الخارقة بتوجيهها لكف الأذى الدولي عن السودان. وقد اخبرني احد ابناء تلك الديار أنهم عرفوا بالتجربة ان الهدهد يعرف العروق ويضع بعضها على الأبواب المغلقة فتنفتح له.
الشاعر الفذ محمد بشير عتيق احذق من يصف الرياض والشواطئ والأزاهر وهديل القماري.. ففي قصيدته (كنا تايهين في سمر) يقول:
ما بنسى ليلة كنا في شاطئ النهر
نتعاطى خمر الحب بكاسات الزهر
والبدر مزق ظلمتو وسفر ازدهر
في النيل سطع بي نوره واتفقّع بهر"
وفي قصيدته (قضينا ليلة ساهرة) يقول:
"الروضة لابسة حلة
من الزهور طرائف بيها المكان تحلّى
الجو نسيمو رايق والغيم نشر مظلة
وما أحلى ديك مناظر فيها البيان تجلّى"
وكأني بالشاعر عتيق يعني حنتوباً بكل هذا الوصف الجميل.. فهي وحدها التي استاثرت بأروع ما عند النيل الأزرق من ألق وظلال وعبير وندى.
كانت أيام حنتوب ونحن نرفل في ثياب الصبا.. ايام صفانا.. وعجبي بعتيق الشاعر:
"اذكري ايام صفانا واذكري عهد اللقا والليالي الفي حبور
القمر بضياهو آلق والنسيم يهدينا ارواح الزهور
الرياض مبتهجة ضاحك أقحوانا
والزهور فرحانة تستقبل اوانا
رائعة يانعة وزاهية في ثوب ارجوانا
النهر لينا اقترب والطيور تسجع طرب
عاملة مزّيكة قرب"
مجموعات عديدة من خريجي حنتوب تلتقي دورياً وتمضي بأواصر الزمالة قدماً في مدراج الحياة، وكنت احضر بصورة شهرية منتظمة اجتماعات دفعة اللواء شرف الدين علي مالك بنادي الزوارق، وهي دفعة تسبق دفعتنا بستة اعوام وفيهم مصطفى عبادي وفؤاد أحمد مكي عبده ويوسف عبدالملك وعاصم مغربي وإبراهيم الجمل.
وهنالك مجموعة اخرى على رأسها د.كرار بشير عبادي واللواء عبدالكريم باب الله وآدم تاج الدين وسامي علي عبدالرحيم، وقد اتصلت بي هذه المجموعة وجلست معهم بمكتب آدم تاج الدين، ابن بلدي وتربطنا به صلة قربى، وهكذا شأن ابناء المناقل كلهم اسرة واحدة.
وعلمت ان مجموعتهم كرمت الأساتذة بروف عبدالقادر حسن الضو والأستاذ عبدالباقي محمد والأستاذ توفيق أحمد سليمان وبروفيسور الأمين كعورة وبروفيسور محمد سعيد القدال ود.يوسف المغربي، وغيرهم.. وجلسات هذه المجموعة دورية يناقش فيها دوماً رد الجميل لأهل الجميل من الأساتذة الذين شهدتهم بحنتوب دفعتهم.
التقيت بأديس ابابا الأسبوع الماضي صديقنا السفير علي آدم الذي يعمل منذ ردح طويل بالأمم المتحدة، وهو من جلينا بحنتوب وطفق يذكرني من أحداث حنتوب وحكاياتنا الزاهية تلك ما قد نسيت، وذلك تحت رذاذ المطر.. وتذكرنا ذلك المطر البعيد الذي همى علينا في ذات يوم حنتوب ونحن انضر ما نكون وأينع ما نكون.. والتقيت عند عودتي للسودان بروفيسور مهدي بشرى، صديقي ودفعتي في حنتوب وجامعة الخرطوم، وتحدثنا عن كيف تكون امسية التقاء ابناء حنتوب.
هاتفني شمو شاع الدين مشيداً بمقالات حنتوب.. وهو من جيلنا.. وقد اعد لوحات تشكيلية يود ان يهديها لعمنا الصول محمد محمود عند تكريمه.
ادركت الشاعر الفذ محمد عبدالحي في السنة الثالثة بحنتوب وتبعته ليعلمني من ما علمه له الله من معرفة بالشعر وضروبه وخياله:
"أشرقي ريح الصبا بين الجبال
أشرقي بين الجبال
فحبيبي كالغزال
يتمشى في بساتين الخيال"
كان يفوقنا تحضراً فهو ابن حضر.. اهله في مدني.. خاله عميد كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم د.سعدالدين فوزي، وأخته سبقته لجامعة الخرطوم.. كان وسيماً انيقاً ودوداً يتحدث همساً:
"واستدارت اقمارها
وتجلت
في سناء من غيبها
الأشياء
وأضاءت بنوره
راضيات مشرقات
في قلبها الأسماء"
التقيت مؤخراً زوجته وأنجاله بمنتدى راشد دياب في ليلة ثقافية عن شعره وما ترك للناس من ادب.. ورأيت في ابنه عبدالحي الذي التقيت وصادقت وأحببت بحنتوب، فتأمل كيف مضت بنا الحياة على عجل!!.
"وضع السمندل تاجه وقميصه الناري يسطع في الغبار
ومشى خفيفاً واثقاً ملكاً على بلد النهار
مرحاً يدور مع الفصول ويستدير مع الثمار"
رحم الله محمد عبدالحي فقد كان عبقرياً..
توطنت قبيلة الهدهد بحنتوب.. وحطت قبيلة الفراشات الملونة رحالها بحنتوب.. فقد كانت حنتوب امبراطورية للفراشات والندى والأزاهر والأريج والجمال.. وفي هذا الرومانس البديع عكفنا اربعة اعوام مرت مر الغمام.. وانقضت عجلى.. كالبرق يومض وينقضي.. وإن نثرت هذه الأسطر عن حنتوب فإن فى نثرها لمتعة للنفس وإطلاقا لقيد الذكريات الجميلة.. ثم نزولا لرغبة اصدقاء وزملاء عمري.. ونعد العدة حاليا، بإذن الله وعونه، على اقامة امسية الحنين والذكرى عن حنتوب على مسرح كلية قاردن سيتي الأنيق، والدعوة ستوجه لجميع ابناء حنتوب.

No comments: