Saturday, 9 February 2008

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (4)

ظفرت مقالات حنتوب باهتمام كبير وقبول مدهش من أبناء حنتوب بمختلف اجيالهم فقد اتصل بي العشرات يضيفون ويصححون في معلوماتي وقد اجمع كلهم على استعدادهم للمساهمة والمشاركة في مقترح تكريم صول المدرسة المهيب عمنا محمد محمود اطال الله في عمره ومتعه بموفور الصحة والعافية.. وكنت قد ضمنت مقالي السابق رقم هاتفي الا ان الاخوة في غرفة طباعة الصحيفة اضافوا للرقم (التسعة) فامطر القوم صاحب الرقم بوابل من المكالمات فطفق يصحح كل من يتصل به بان الرقم المراد ليس به (تسعة) فله العذر. ومن بين الذين اتصلوا بي شباب تخرجوا في زمان الثمانينيات يختزنون اجمل وأروع الصور عن المدرسة الجميلة الخضراء وما درى هؤلاء ان الذي وجدوا هو ما تبقى من تلك المدرسة.. فقد زرتها في تلك الحقبة ووجدت ان التصحر بدأ يفترسها شيئاً فشيئاً حتى أمسك تماماً بتلابيبها في السنوات التي تلت وقد انهارت البنية التحتية خاصة انابيب المياه التحتية والمضخات التي كانت تغذيها بالمياه من النهر لتسقي الميادين وحدائق المنازل والمدرسة وهذا ما يجعل حنتوب دائمة الاخضرار وهذا بالطبع لا يعني ان الطبيعة لا تضيف فحنتوب هي النيل والشاطئ والمياه الجارية والاشجار الظليلة والعشب الخريفي والعصافير المغردة.. لذا اكتفت الاجيال اللاحقة بهذا دون ان تدري ان المدرسة كلها كانت جناناً ورياضاً خلابة.. ولكن زماننا كان غير زمان اجيال ابنائنا وزمان الاجيال التي سبقتنا كان غير زماننا.. وكل حقبة تنطوي تطوي معها شيئاً من الدعة والهناء ولعل اروع من صور هذا هو الشاعر الفذ صلاح احمد ابراهيم:
"رغم طول البين ثابرت أسائل
في صباح ومساء
اين أين السمح ريان المناهل
حسرتا.. كيف تشتتنا هباء
زارني منك رسول هزني
فتذكرت عشيات اللقاء
والبشاشات التي انساقت لنا
ضحكاً حلواً وانساً وصفاء
ووجوها ينعت والتمعت
بالسنى يا للصحاب السعداء
فاذا النيل نسيم وامق
لاثم خد مليح في حياء
واذا النجم رنا ثم دنا
كاد لولا يتدلى من سماء
واذا الليل نخيل راقص
وضياء شع في الشط المقابل
وشباب فرح مصطخب
حلقات في غناء وشواء
بين شاد ومجادل
او مناد لصديق او محي في طريق
بهجة ليس لها قط انتهاء
كان ذلك
في زمان اريحي متفائل"
دفعت حنتوب بجانب الاربعة الذين اضحوا رؤساء للقضاء والاربعة الذيبن اضحوا مديرين لجامعة الخرطوم باربعة آخرين تقلدوا منصب وزير العدل:
الدكتور حسن الترابي
الدكتور عبد السميع عمر
الاستاذ عبد المحمود صالح
الاستاذ عبد العزيز شدو
من الناشطين في المجال السياسي في زماننا بحنتوب وقد فات عليّ ذكرهم في المقالات السابقة عثمان جعفر النصيري الذي كان من العناصر الشيوعية النشطة ومعه بشير زمبة وعمر الخليل وقد التقيت عمر الخليل مؤخراً وعليه سمات الروقة ودعة الحال فبادرته ( تدخلونا في اليسار وتبقوا مليارديرات؟) فاجاب (نحن ما قلنا ليكم اقعدوا في اليسار للأبد) هكذا نتبادل القفشات حين نلتقي وقد كبرنا وتزوج عيالنا وانجبوا لنا احفاداً وحفيدات.. واخذنا من الحياة نصيبنا كل بمقدار ما وهبه الله من مال وجاه ومنصب وفرص فالحمد من قبلُ ومن بعدُ لله مسير الكون ورازق الطير والانام وكل ما يدب على وجه البسيطة. في زمان السبعينيات استقر بي الحال واسرتي الصغيرة بلندن.. وجدت لي عملاً بالصحافة بشارع (فليت) وكنت قد اتممت دراساتي العليا بجامعة لندن ووجدت زوجتي عملاً هي الاخرى وقلت لها.. هذا موطننا الجديد.. وعملت جاهداً ان اتطبع بطباع القوم هناك.. ان لا تتحدث كثيراً.. ان لا تهتم باحد.. ان تعمل حتى الخامسة ثم تدفن وجهك في صحيفتك وانت تعود بالقطار من العمل الى منزلك.. ان تتلاءم مع العزلة والبرد القارس والصقيع والجليد والمطر والضباب... فكرت وفكرت ورأيت ان السودان بكل ما فيه افضل بلاد الله لنا.. فأعلنت العودة.. وكان آخر حفل عشاء لنا بمنزل الاخ الصديق عثمان جعفر النصيري وزوجته الفضلى سلمى بابكر لهما عرفاني واشواقي وتحياتي وقد استوطنا تلك الديار البعيدة.. فالت القاصة السودانية الشهيرة المقيمة بلندن ليلى ابو العلاء:
Lonlyness is the malaria of Britain
الوحدة هي ملاريا بريطانيا
ونعود لحنتوب ونقرأ للشاعر اللطيف شمس الدين حسن خليفة يعدد كل معلم من معالمها ولا يغادر معلماً:
"والسفرة انتظمت وسرنا نحوها متتابعين بغير ما الزام
هيا بنا نبدأ يصيح (براون) فبدأت في التو التهام طعامي
(والصول) قد قاد الكديت بفتية بعد الغداء تدربوا بنظام
ومحاسن الكشافة انضمت لنا في كل منضبط وكل همام
صور تسابق في الخيال تهزني فاعيش في شوق يزيد ضرامي
احبب بايام الصبا وجمالها مرحاً قضيناها وخيرا هامي
ايام كانت للحياة حلاوة (الروض المطير) ورقة الانسام
انا رضعنا عهد حنتوب هوى وقلوبنا ظلت بغير فطام
حنتوب كانت عالماً متفرداً لمثابرين ونابهين عظام"
وعلى ذكر الشعر فاتني ان اذكر الشاعر الصديق الامين بلة المهاجر منذ زمان بعيد باحدى دول البترول وقد التقيته في مطار البحرين وتذكرنا حنتوب وقرأ لي قصيدة كتبها في حنتوب لا اظن ان هنالك من الشعراء من تفوق عليها.. صدحت مكرفونات المطار وتوجه كل منا الى طائرته.. لا ادري اين الامين الآن وكيف اظفر بتلك القصيدة العصماء.. ارجو إن قرأ مقالي هذا أن يرسلها على بريدي الالكتروني فربما كتبنا حلقة اخرى عن حنتوب...
من اشهر انماط الرياضة في حنتوب سباق الضاحية وهو سياق طويل حول المدرسة له رايات ومراقبون يقفون عندها ويبدؤه جميع الطلاب بقيادة الناظر هاشم ضيف الله ويبدأ القوم في التساقط والاعياء زرافات ووحدانا والذي يفتر يذهب الى مساطب ميدان كرة القدم الكبير في انتظار دخول الطالب الاول.. وكان الاول في زماننا كباشي وبعد تخرجه استلم الراية باب الله وقيل لنا ان صديقنا حسين الطاهر عبد الحفيظ في الدفعات السابقة لنا كان هو الاول كما قيل لنا ان في العبقريات الخارقة في الذكاء الاكاديمي كان محجوب عبيد وانور الهادي وفي زماننا كان العبقري سعد عدنان.. دخل معنا باب الله كلية اقتصاد جامعة الخرطوم ولكنه عزف فجاة عن الجامعة بكل مافيها من ترف ودعة عيش وفضل عليها الذهاب والبقاء لايام طويلة بقريتهم القريبة جداً من الخرطوم وهي الباقير ينعم هناك برفقة اصدقائه ويلعب الكوتشينة وقل ان يطل علينا في الجامعة ولكنه امتلك كتاب قانون الجامعة واصبح فيه مرجعاً يعرف الحد الادنى من المحاضرات والسمنارات التي ينبغي دخولها لتتفادى الفصل. ذهبنا له كاصدقاء اجاويد نقنعه بالعودة للجامعة فقال لنا ومعي مصطفى جمال الدين: انه دائماً ينوي الرجوع بعد نهاية الاسبوع ولكنه يأكل السبت وعندما يطل فجر الاحد يبين له ان الخميس على الابواب فلا من داعٍ للذهاب وهكذا تطول به المدة ظل باب الله يسقط ويملحق وينجح ويسقط ويعيد وينجح حتى فصل من الجامعة ولكنه عاد اليها بعد عشرة اعوام من تخرجنا فاكملها.
من الاساتذة الاجلاء في عهدنا بحنتوب عهد الستينيات محمد سعيد القدال وابراهيم الزين صغيرون وحمد النيل الفاضل ومحمد الشيخ مدني وهؤلاء باستثناء محمد الشيخ جميعاً من ابناء حنتوب ثم بعد التخرج ودخول الجامعة لحق بنا هؤلاء الافذاذ وقد اكملوا الدكتوراه وواصلوا تدريسهم لنا بجامعة الخرطوم هكذا كان طموح الناس في ذاك الزمان.. ولقد تأثرت في كتاباتي بأستاذي المثقف الذكي د. محمد سعيد القدال الذي اضحى مؤرخاً لتاريخ بلادنا خاصة تاريخ المهدية وبفنه العميق في كتابة المقالات.
أما استاذنا الراحل الهادي آدم فقد حببنا في الأدب والشعر فاصبنا في الشعر وصناعته بعض شهرة، تلك ايها القاري الكريم كانت ايام.. هل نشكو هذا الزمان لزماننا ذاك:
"بشكي ليك أنا يا زمنا
من زمن شال المحنة
لا وتر من تاني رنا
لا بلوم في فرعو غنا
والحنان يا حليلو روح
ما في زولاً تاني حنا
جفت الزهرة النضيرة
والغصون انفض طيرة
الحبايب ولوا فاتوا
والاماسي كمل عبيرة
الكليمات الحنينة
مالة راحت وراح رنينة
والحبيب الكان يزورنا
نلتقيهو ويلتقينا
ضن بي فرص التلاقي
لا بيسأل لا يجبنا"
كامل عبد الماجد
ما الذي بالله اطفأ في الناس البريق اين امثال صلاح احمد ابراهيم ومحمد عبد الحي وصديق منزول ومحمد وردي في الاجيال التي اتت من بعدنا بل اين مثل خامات التربية السامقة امثال عبد الرحمن على طه ونصر الحاج علي وهاشم ضيف الله وعبد الباقي محمد، ما الذي اطفأ في الناس البريق.. غير ان الفداء ان الرياح الجديدة اقتلعت القامات في كل بقاع الدنيا وخلطت الحابل بالنابل.. هبطت لندن العام الماضي وقد فارقتها قبل ردح طويل من الزمان بعد اقامة امتدت لعشرة اعوام.. فرأيت لندن اخرى غير التي عرفت.. فقد تكاثر فيها القوم من كل فج عميق فكنت والله اقرب ما اكون لاهل الكهف.. تغير كل شيء وتبدل كل شيء.. ونسيت كل شيء تقودني ابنتي من يدي وتدخلني من مكان الى آخر وكأن الاشياء كلها جديدة علي.. انكرتني لندن "وانا ابن سرحتها الذي غني لها"
"لقيتنا في فتور مثلما تلقى الجديد
وهي كانت ان رأتنا
يضحك النور الينا من بعيد"
انطوى في بريطانيا زمان مسز تاتشر وبيتر أوتول وجون لينون وكيقان وغيرهم من القامات السامقة.
لا يحس بطعم ما اكتب الا اولاد حنتوب ولا يتنسم عطر ما أروي الا ابناء حنتوب.. الكبار منهم والصغار فحنتوب والوادي وطقت من حسنات الانجليز التي يُشكرون عليها مثلما يشكرون على الخدمة المدنية التي تركوا والخزان والمشروع والسكة حديد والبوستة والنقل الميكانيكي والمخازن والمهمات والنقل النهري وجامعة الخرطوم وكباري العاصمة ومباني الحكومة في كل مكان والتلفونات وغيرها.. ثبتوا لهم الفضل في هذه الانجازات ولا يمنعكم شنآن قوم ان تثبتوا فضلهم وتعدلوا.
وافق صديقنا الاستاذ الكريم صلاح محمد عثمان يس ان يستضيف تكريمنا للصول محمد محمود رمز حنتوب الوحيد المتبقي في النادي العائلي الذي يرأسه ووافق صديقنا الاستاذ محمد عوض الكنزي ان يتكفل بالمرطبات والخدمة في تلك الليلة اما الهدية المالية التي سنقدمها له فقد وافق المئات من ابناء حنتوب عبر الهاتف على المساهمة فيها وهذه كلها (Gesture of gratitude) لمسة وفاء ورد جميل.. يتسلم ويسجل التي ستعلن في حفل التكريم المساهمات الاستاذ محمد عوض الكنزي مدير صالة وفندق المعلم جنوب التربية والتعليم تلفون 0922211540 وتلفون 0123094485 وسوف ننشر تاريخ ليلة التكريم.
مع عرفاني وتقديري
لا ادري لماذا نسيت وانا اعدد زملائي واصدقائي ابناء جيلي أو ان اذكر الاستاذ محمد احمد سالم مسجل الاحزاب السياسية والفريق الركن محمد عبد الله عويضة وقد كانا من اقرب الاصدقاء ليس فقط في حنتوب بل حتى في المدرسة المتوسطة... ومن اصدقائي من ابناء بلدنا المناقل كان هناك علي تاج الدين ومحمد الحسن جيمس وعبد الملك وود البر وقد سبقنا مصطفى محمود مصطفى ومصطفى آدم وآدم تاج الدين وكنت كلما قلت لاحد ان صديقي بحنتوب كان علي تاج الدين يسارع ويصححني (تقصد آدم تاج الدين) وذلك لأن علي كان ولا يزال منزوياً ومسكيناً وآدم واسع العلاقات الاجتماعية مثلي وكثير الحراك..
اشكر كثيراً كل من اتصل بي من ابناء حنتوب ولهم عرفاني وما كنت ان اكتب عن حنتوب اربعة مقالات الا بعد ان امطرتني مهاتفاتهم الجميلة التي اعطتني دفعة قوية اوصلتني للمقال الرابع هذا..
وسأغادر بإذن الله بعد غدٍ لاثيوبيا لحضور احتفالاتها ببداية الألفية الثالثة حسب التقويم الحبشي وبعودتي سأكتب عن هذه الاحتفالات التاريخية.

No comments: