انبأني الصديق سعد البنا وهو من أجيال حنتوب اللاحقة بخبر وفاة عمنا الريس عبده قبل أسابيع خلت.. ورحيل الريس عبده يحرك خضماً من الذكريات الساكنة و(النوستالجيا) لدى أبناء حنتوب جاء عبده من جهة حلفا بأقصى شمال البلاد يافعاً وسيماً وارتبط (برفاس) حنتوب.. يرتدي زياً شديد البياض يشكل مع لون (الرفاس) الأبيض وبشرته السوداء اللامعة انسجاماً رائعاً ثبت في ذاكرتنا رغم توالي الحقب. أتذكره جلياً اليوم والناظر هاشم ضيف الله المهيب يجلس بتؤدة على كنب الرفاس المبطن الأبيض الفاخر وعم عبده يمخر عباب النهر الى الضفة الثانية. وقد كان (الرفاس) مخصصاً فقط للناظر والمعلمين ونحن الطلاب كنا نبحر بالبنطون العمومي نظير تذكرة يسيرة لا تتعدى القرشين بعملة ذلك الزمان.
كيف جاء الريس عبده الى حنتوب؟ ومن أي قرية من قرى حلفا بالتحديد؟ لا ندري، لكنه احتل مكانه كرمز من رموز حنتوب مثله مثل عمنا مصطفى جرس وعمنا حران فراش داخلية المك نمر الذي حصد طوال فترة عمله بحنتوب كل كؤوس النظافة، وعمنا الصول محمد محمود صول (الكديت) ذلكم الصارم العنيف المنضبط الذي كنا نقف خلفه في الطابور ترتعد منا الأوصال.
التقيت الريس عبده بودمدني في السنوات القريبة الماضية وكان يتذكرنا فرداً فرداً ونغدق له كلما التقيناه الاحترام والإجلال والعرفان أقترح عليّ سعد البنا ان نقيم تكريماً بودمدني لعمنا الصول محمد محمود آخر من تبقى من رموز حنتوب واستحسنت المقترح وسأعمل بإذن الله بالتنسيق مع القنصل مصطفى عبادي والأستاذ بلة أحمد العوض والبروف أحمد محمد علي اسماعيل وصلاح محمد عثمان يس واللواء الشيخ مصطفى واللواء شرف الدين علي مالك على ترتيب الأمر والدعوة موجهة لخريجي حنتوب للاتصال بي عبر هاتفي 09123094485 لتنفيذ المقترح.. فهي بادرة وفاء وعرفان لإنسان سلخ عمره في تعليمنا الرجولة والإنضباط، أطال الله في عمره، ويمكن دعوته للخرطوم بأسرته للتكريم إن تعذر على الناس السفر لودمدني وقد تخطى الصول محمد محمود التسعين وما زال نشطاً متحركاً يمشي في الأسواق.
"كان شيبون مع ذلك إنساناً بسيطاً
كان ريفي
كان كالسيل وكالظل الوريف
قال لي فوق ندى العشب الخريفي
والثعابين لها نحو الصديقين التفات
يا صلاح..
ما حياتي إن أنا ضيعتها دون أن أبني بناء للغد
أنا إن عشت وشعبي مرهق مستغل ثم لم امدد يدي
فأنا لست بإنسان له عيد ميلاد أنا لم أولد
هكذا غنى كمال
فلنفجر شعرنا فوهة بركان نضال"...
صلاح أحمد ابراهيم
وإشارة الشاعر صلاح أحمد ابراهيم الى العشب الخريفي والثعابين، تجسد الصورة الماثلة في الذكرى عن تلك المدرسة الوارفة الظلال الخضراء دوماً وعشبها المشبع بالندى كانت تعج بأنواع الطيور وخاصة طير الهدهد الذي اتخذته المدرسة شعارها، في الخريف كانت تكثر الهوام، وإن قارن الأستاذ الشاعر عبد الوهاب الحاج في قصيدته التي أرسلها لي بين حنتوب (وشِعب بُوان) وهي منطقة بشيراز بإيران وصفها المتنبئ بقصيدته الخالدة شعب بوان، إن قارن بين حنتوب وبينها يصدق بحق في المقارنة:
"هزبر الشام قم وأشهد جمالاً ** سليل النيل من بين المغاني
وحاشا ان تكون هنا غريباً ** ولا أهلوك غرباء اللسان
حديث الشعب فيّ أثار شجواً ** بحنتوب التي هزت كياني
منارة أمة أوفت عطاءً ** لصرح العلم فوجاً بعد ثاني
هنا الأزهار ألواناً تلاقت ** وأبدلت القتال بمهرجان
وألهبت المشاعر عن قوافٍ ** معبقة كأفواه الدنان"
مقالاتي عن حنتوب وجدت تجاوباً داوياً من زملائي من أبناء حنتوب وفيهم الذي تخرج قبلنا بعشرة أعوام.. وقد نبهني الصديق بلة أحمد العوض انني نسيت في استعراضي للشعراء من أبناء حنتوب الدكتور حسبو سليمان والشعراء عبد المجيد حاج الأمين وشمس الدين حسن خليفة ومن الأجيال اللاحقة د. عمر محمود خالد ومحيي الدين الفاتح ومن العسكريين والشرطيين الفريق بشير محمد علي واللواء الفاتح بشارة واللواء مبارك عثمان رحمة ومن السياسيين شوقي ملاسي ومحمد علي جادين ومن أهل الرياضة عصمت معني وطه صالح شريف ومحمد ابراهيم ومن أهل القانون عبد السميع عمر أحمد وعبد المحمود صالح والفاتح عووضة، وبرز في مهنة الطيران كابتن زمراوي الطيار الشهير وكابتن مكاشفي حاج الأمين وكابتن مالك ود العقاب، وكابتن سرداب وكابتن بشير سلمان وكابتن صلاح شبكة، وكابتن أحمد نصرالدين.
قال لي صديقنا بروفيسور صلاح الكارب ان المدارس الثانوية القديمة كلها خرجت الأعلام في كافة المجالات والأمر ليس وقفاً على حنتوب وحدها حتى تفرد لها المقالات. قلت نعم ولكن حنتوب تفوقت على المدارس الثانوية بتخريج الذين تبوأوا الذرى في المجالات التي امتهنوها نعم خورطقت ووادي سيدنا خرجتا الأفذاذ ولكن حنتوب تفوقت عليهما فالشاعر الفذ صلاح أحمد ابراهيم وحده يرجح الكفة. قال العلامة عبد الله الطيب وهو يقدم لديوان صلاح (نحن والردى):
(لعل صلاحاً رحمه الله تأثر ببعض نظم أستاذه كاتب هذه السطور وذلك إن صح مما أفخر به وأتشرف).. اليست هذه وحدها شهادة رفيعة المستوى. ثم حنتوب هي وحدها التي دفعت بـ (4) من خريجيها ليصبحوا مديرين لجامعة الخرطوم.
- بروفسير علي فضل
- بروفسير عمر بليل
- بروفسير التنقاري
- بروفسير عبد الملك
ووحدها التي دفعت بثلاثة من طلابها ليصبحوا رؤساء القضاء بالسودان:
- مولانا خلف الله الرشيد
- مولانا فؤاد الأمين
- مولانا عبيد حاج علي
حدثني الدكتور معتمد احمد أمين ان فريق حنتوب في زمان الخمسينيات كان لا يشق له غبار وذكر ان فريق (الهومفيد) المجري زار السودان في عام 1956م وأدى مباراة مشهورة بودمدني ضد فريق الجزيرة وفاز عليه بـ: 10 _ 1 والهدف الواحد سجله مصطفى كرار كابتن نادي الإتحاد ولعب (الهومفيد) ضد فريق حنتوب ففازت عليه حنتوب بـ 2 _ 1 وكان ضمن الفريق سيد سليم ومعتمد أحمد أمين وفارح الصومالي ومحمد الطيب عبد الحفيظ وغيرهم.
جمال حنتوب يفوق الوصف وتتقاصر عن وصفه الكلمات.. فالأشجار الظليلة والأزاهر من كل لون والعشب المشبع بالندى والعصافير المغردة كانت سمة مستدامة للموقع الذي شيّدت فيه المدرسة التي كانت حتى عهد قريب بعيدة عن العيون والطرّاق لأن وصالها لا يتم إلا بعد عبور النهر.
"فقم واسمع بنات الأيك فجراً ** أضف أخرى لرائعة الزمان
هنا الثمرات في الأغصان فاقت ** بأشربة وقفن بلا أواني
هنا الأصداء تبعث ان سمعتم ** صليل الحلي في أيدي الغواني
هنا الأفياء لا تسمح لشمس ** تلامس أو تفر من البنان
سباك الحسن في (بوان) يوماً ** ومثلك حسن حنتوب سباني"
عبد الوهاب الحاج
وصديقنا الشاعر المجيد شمس الدين حسن خليفة بارع في التصوير الشعري وهو الذي كتب نشيد العطبراوي الرائع (مرحبتين بلدنا حبابة) وهو أيضاً مؤلف الأهزوجة الجنوبية الشهيرة (سوري لي أنا كفارة لي أنت) وقد كتبها بعربي جوبا أيام كان مفتشاً للصحة بجوبا.. وقد زار شمس الدين حنتوب بعد تخرجه منها بسنوات عديدة فكتب قصيدة رائعة زخرت بكل مناشط ومعالم تلك المدرسة الواحة الوارفة:
"اليوم جئتك هل عرفت فتاك أم ** عهدي تولى مؤذناً بختام
أم هل ستعرفني الفصول إذا دنت ** في لهفة من بابها أقدامي
(يا مسجد الإسلام) ألف تحية ** كم قد شهدت تهجدي وقيامي
(وبعنبري) عند الرقاد تأمل ** وشقاوة تحلو قبيل منامي
(وبصالة المذياع) منطلق به ** يحلو الحديث برقة ووئام
بعد (اختبار الأربعاء) وماله ** من رهبة لمعارك الآلام
أما (مذاكرة المساء) فإننا ** نمضي لها في غير ما إقدام
(ونهاية الأسبوع) كانت فرحة ** وتحرر من حصة ونظام
وزيارة (الكنتين) كانت متعة ** تجلو صدا الأرواح والأحلام
(والقهوة) انتقلت بنا من عالم الجد ** الرهيب لعالم بسام
وإذا (الحوالة) شرفت فمساؤنا ** عيد لنا وافى بكل مرام
أنظر (لصالون الحلاقة) بارزاً ** كالمنتدى في ضجة وزحام
أما (العيادة) فالسعيد يزورها ** يوم اختبار ينتهي بسلام
يا (يوم آبائي) أراك مجسداً ** يا مهرجان العلم والاعلام
(يا ملعب التنس) الأنيق تحية ** للمضرب البني والهندام
و(الهدهد) المختار صار علامة ** مرموقة رفعت مع الاعلام
حتى (التلسكوب) العتيق وجدته ** في صمته يحكي أدق كلام
لا زلت أذكر في الخريف تفتح ** الأزهار بين نسائم وغمام
ولرحلة (الرفاس) ذكرى حلوة ** ولعهدها أبداً فؤادي ظامي
(وسباق ضاحية) إذا ندعى له ** تتنوع الأعذار في استرحام
حضر الرئيس فلا مجال لهارب ** إن الحضور مقيد بتمام
والشجرة الشعثاء نركض نحوها ** متهالكين ومجهدي الأجسام"
واكتفى من رائعة شمس الدين بهذه الأبيات وهي كفيلة بان تهيج الذكرى والحنين لدى كل خريج من حنتوب يطلع على هذ المقال. وعلى ذكر التنس وهي لعبة ارستقراطية أذكر الآن جلياً أحمد الصائم وتفوقه المدهش في هذه اللعبة وأهل القطينة تحضروا قبلنا نحن أبناء قرى الجزيرة لذا كنا نكتفي في التنس بالاستمتاع بالحضور والنظر لود الصائم وهو يتألق جيئة وذهاباً وركضاً وعدواً فيوسع الخصم بالضربات الذكية.. كان ود الصائم ولا يزال أنيق الملبس راقياً متحضراً ولما ساقني الزمان بعد ثلاثين عاماً من حنتوب محافظاً لبلدهم وجدت إخوانه بذات الأناقة والرقي.
هذه ثرثرة عن حنتوب تلك الخميلة التي قضينا بها أزهى أيام عمرنا.. سن العمر الحلوة التي دون العشرين قليلاً وقديماً وصف شكسبير هذا العمر بالحلاوة Sweet Age Of Twenty وخرطة بناء حنتوب هي خرطة وادي سيدنا وطقت إلا أن حنتوب ظفرت بالشاطئ والإخضرار ولم يكن هذا حال طقت ووادي سيدنا. وقد نقل ـ والعهدة على الدكتور معتمد أحمد امين والبروف أحمد محمد علي اسماعيل ـ الشاعر السر دوليب من وادي سيدنا الى طقت ومعه من حنتوب بكري عديل والفاتح بشارة وراجت في تلك الأيام أغنية للفنان الكبير الخير عثمان جاراها الناس بإضافة بيت يقول:
الوادي ضجت"
وحنتوب احتجت
والسبب الثلاثة الودوهم طقت".. فتأمل بالله كيف كان المجتمع يتابع ويتجاوب مع ما يدور في تلك المدارس الجامعات.
أختم حنيني وذكرياتي عن حنتوب آملاً ان يكون قد إطلع عليها زملاؤنا في ذلك الزمان والزمان الذي قبلنا وبعدنا.
"ما أعذب الذكرى صداها نشوة ** في حضننا ننسي لظى الآلام
لكنها تمضي الحياة وتغمر الأحداث ** ما قد فات في إرغام
وتفرق الأصحاب حين تفرقت بهم ** الحياة ودورة الأيام
واختار كل في الحياة طريقه ** يسعى لغايته بلا استجمام
لكنها الذكرى ستبقى حية ** رغم اختلاف مناصب ومرامي"
بمنزلي لوحات تزين حائط منزلنا من كل ناحية أحبها الى نفسي لوحة عليها صورة الهدهد ومكتوب عليها الى صديقنا ابن حنتوب كامل عبد الماجد إهداء من البروفيسور مهدي بشرى والأساتذة الأحباب الطيب جمال الدين ومصطفى جمال الدين وخالد تلاتين وهم أعز الأصدقاء أضف لهم البروفيسور مصطفى محمد سليمان والفاتح إمام ود.حاتم حلواني ود.محمد عثمان ابراهيم.. لهم ولجميع أبناء الدفعة محبتي وودادي وتحياتي. أشكر السفير عثمان السيد لمتابعته مقالاتي وليت لو كتب د. ود الريح أو د. كامل ابراهيم حسن عن خورطقت والشكر للصديق صلاح محمد عثمان يس الذي استضاف تجمعاً تأريخياً لأبناء حنتوب العام الماضي في النادي العائلي (أبولو) الذي يرأسه. ووصلتني رسالة رقيقة من الفريق شرطة أحمد محمد عثمان ، عن حنتوب، سأنشرها قريبا بإذن الله.
أنوي بإذن الله مع الأستاذ احمد طه حضور احتفالات اثيوبيا أول الشهر القادم بالألفية الثالثة وسأخصص مقالات قادمة في الثرثرة عن تلك الاحتفالات.
No comments:
Post a Comment