استأثرت داخليتنا ود النجومي بكأس سباق الضاحية.. فكان هناك كباشي.. ثم سلم الراية لباب الله.. وسباق الضاحية كان أصعب ضروب الرياضة وأبطاله يعرفون فنه.. فالمسافة طويلة للغاية وإن بدأت مسرعاً سرعان ما تفقد اللياقة وتتوقف. واستأثرت النجومي أيضاً بكأس كرة السلة فكان بيننا بازا والعقب ثم استلمت منهم الراية. وكان الشيخ مصطفى بجانب كرة القدم بطل السلة بلا منازع ينافسه بهاء الدين ود الحاج وأحمد ناصر وشخصي. وكان أحمد الصائم لا ينافس في كرة المضرب والتنس.. وكان من بين الكؤوس بالنجومي كأس تنسيق حديقة الداخلية الذي كان من نصيب عمنا الجعلي فضل السيد فراش الداخلية عليه الرحمة.. وقد التقيت قبل سنوات ابنه الدكتور بدر الدين ببرلين الشرقية حيث اصبح من كبار الاختصاصيين له مستشفى خاص ويدرس في جامعة برلين. وأذكر ان استاذنا العظيم الراحل هاشم ضيف الله قد قال لنا وهو يودع دفعتنا في حفل كبير (الذي يقابلني منكم في دروب الحياة.. يقول اسمه ويقول كان بلعب شنو) لم يقل لنا يقول كان في set one ولا set two فتأمل بالله عليك حب الرجل العظيم للرياضة.
لم تكن دفعتنا مميزة دون سواها. كل دفعة كان فيها الأفذاذ في المجال الأكاديمي والرياضي والثقافي..
جاءت من بعدنا دفع عمر محمود خالد ومحي الدين الفاتح ويعقوب عبدالماجد وغيرهم ومضت حنتوب تؤدي رسالتها بتفوق عظيم فقد تضافر على وضع الـ system أفذاذ التربية من خواجات وأولاد بلد ودرنا جميعاً في دولاب ذلك الـ system دون أدنى تعديل ولا تغيير. وقف هاشم ضيف الله بقامته الفارعة الرياضية يودعنا في حفل تخرجنا من حنتوب وأخبار نجاحنا في دخول جامعة الخرطوم تظلل سماء الحفل بالألق والرضا. وطفق يوزع الميداليات والكؤوس التي امتلأت بها منضدة كبيرة أمامه. ظفر يحيى الحاج ابراهيم بكأس التمثيل وقد امتهنه في حياته وجاءنا ونحن بلندن يحضر الماجستير في الدراما وظفرت وزميلي عوض الجيد محمد احمد بكؤوس الشعر والأدب وظفرت أيضاً بكأس كرة السلة. وظفر باب الله قسم الله بكأس الضاحية ومصطفى محمد سليمان (خبير وبروفيسور في المراعي) الآن بكأس الزوارق وفاز مصطفى أحمد المصطفى والرشيد النوراني وعز الدين جلال بكؤوس كرة القدم وعدلان الصديق بكأس التدريب العسكري والحاج الصديق طه بالإلقاء الانجليزي وعمر إمام بكأس الرئيس المثالي. وتوالت الكؤوس والميداليات مما يضيق المجال ويضيق ملف الذكرى بذكر كل من فاز في تلك الأمسية فليعذرني زملائي الذين لم أذكرهم في هذا المقال وليذكرني من يذكر لأشمل ذكره في المقال القادم.
أهداني استاذنا بروفيسور أحمد ابراهيم أبوسن كتابه الجديد (المؤانسة والامتاع) وهو كتاب شيق سلس حفل بالذكريات والشعر وروائع الأدب. وبروفيسور ابوسن سبق ان أصدر سفراً قيماً باسم (الإدارة في الاسلام) كان من أهم مراجعي وأنا أحاضر وأكتب في إطار استشارية عن الإدارة في المملكة السعودية بتمويل من وزارة الشؤون البلدية والقروية. وعن حنتوب التي كان البروفيسور أحد خريجيها بقول:
(وفي الطريق الى حنتوب دلفت الى دكان الترزي ويسمى (اليوسفان) بودمدني ويبدو انهما ترزيان بنفس الاسم ويعملان كشريكين واستلمت الزي المكون من قميص ورداء الكاكي ثم عبرنا النيل الأزرق ببنطون المدرسة وسائقه يسمى عبده وظهرت لنا حنتوب الجميلة في اخضرار وبهجة تزدان بأشجار التنضدب الخضراء وبالميادين الرياضية المعدة إعداداً جيداً ونزلت بداخلية عثمان دقنة مع زميلي وصديقي عز الدين علي مالك رحمه الله.. وقد أدهشني البروفيسور بذاكرته الفذة وهو يعدد أبناء دفعته ويذكر المجالات التي امتهنوها في مقبل أيامهم (أما زملاء دفعتي في الدراسة الذين التحقوا بحنتوب في عام 1950 و الذين انخرطوا في العمل الطبي د. حسن كاشف، د. عبد القادر ساتي، د. عبد المنعم كشان، د. محمد سعيد الريح والذين ذهبوا للجيش والشرطة اللواء شرطة اسماعيل عطية واللواء شرطة قرشي محمد فارس والفريق شرطة عبد الله حسن سالم والفريق عز الدين علي مالك واللواء نور الدين المبارك واللواء مبارك عثمان نصر والفريق يوسف أحمد يوسف). ويمضي بروفيسور أبوسن في ذكر أبناء دفعته جميعهم في مجالات عملهم دون ان تسقط ذاكرته أحداً.
واسأل كيف تم اختيار قرية حنتوب مكاناً لتلك المدرسة الأسطورية التي غذت السودان بالرجال في كافة المجالات.. وتصلني الإجابة من استأذي المؤلف الأديب الأريب الطيب علي عبد الرحمن وهو من طلاب ومعلمي حنتوب.. يقول لي نقلاً عن مولانا محمد أبوزيد ان الاتجاه الأول كان ان يتم تشييد المدرسة في المديرية الشمالية ثم تعدل الأمر لتذهب لمديرية النيل الأزرق وتم اقتراح سنار ثم الشكابة ثم المدينة عرب. وفي اجتماع ضم رهطاً من زعماء الأهالي بودمدني ترأسه المستر بريدن مدير مديرية النيل الأزرق ضم الشيخ أبوزيد وصالح بحيري اقترح شيخ أبوزيد قرية حنتوب مكاناً للمدرسة ووجد الاقتراح قبولاً من مدير المديرية والحاكم العام وفي المسوحات الميدانية للأرض المجاورة للقرية وجد المستر بريدن ان جل الحيازات مملوكة للشيخ أبوزيد والسيد الكارب فتنازل الإثنان عن أراضيهما لوجه الله والتعليم، والمستر براون هو الذي قرر ان يكون رمز المدرسة الهدهد لكثرة الهداهد في تلك الأنحاء. فتأمل بالله عليك أريحية وبعد نظر الشيخ أبوزيد والكارب أما حق لأهل السودان الاحتفاء بذكرى هذين المحسنين وقد قل وتلاشى في هذا الزمان الإحسان. عطر الله ثرى كل من تنازل عن ماله طائعاً في سبيل المعرفة شيخ أبوزيد، الكارب، عبد المنعم محمد، البغدادي، وقبلهم السيد عبد الرحمن، ونذكر أيضاً السلمابي والضو حجوج وجابر أبو العز وبابكر ود الجبل ومن الذين وهبوا أرضهم على سعتها من أجل إزدهار الرياضة شاخور وكيشو والطيب عبد الله وغيرهم. غير ان الإحسان كاد ان يتلاشى في هذا الزمان.
اتصل بي من المانيا الصديق حسين عثمان البطري يشيد بمقالات حنتوب ويضيف وحسين من أبدع عازفي الكمان في البلاد.. ولا أنسى دخوله علينا في لندن ونحن نقيم حفلاً لصديقه د. رمضان. دخل علينا بكمانه والجليد يكسو مصطفى لوناً أبيض ليشجينا بعزفه البديع. اليه والى محجوب بطري أول من اتصل بي مهنئاً بمنصبي الجديد تحياتي وودادي وعرفاني.
وقف هاشم ضيف الله في صبيحة يوم من أيام عام 1963م في اجتماع المدرسة يخبرنا بقراره ان يذهب جميع طلاب المدرسة لقرى الجزيرة والمناقل للمشاركة في جني القطن فسرت منا همهمة ونحن جلوس على النجيلة بما يعني الامتعاض فاستشاط غضباً وخاطبنا (هل تمانعون. هل أتينا بكم هنا لتأكلوا وتنعموا.. ألا تعرفون الوطنية؟) فتوجهنا ونحن في خجل الى البنطون لتقلنا العربات في الشاطئ الآخر الى الحواشات. كنا والحق يقال في حنتوب في بهجة وفي نعيم لا نريد له فراقاً.. كانت الوطنية عند هاشم ضيف الله تعني انكباب الطلاب على الانضباط والتحصيل والرياضة دون الانشغال بالسياسة في المرحلة الطلابية وبعد التخرج لهم ان يفعلوا ما يريدون. كان يريد مدرسة خالية من المظاهرات والاضراب والاعتصام. وكنا في العمر الثوري نتابع كل ما يجري في البلاد من أحداث ونتفاعل مع قضايا الوطن وبدأ يتشكل ويتنامى في دواخلنا الوعي السياسي.
كان محمد عبد الحي الشاعر العبقري الفذ أكثر النجوم سموقاً في سمائنا في ذلك الزمان ويقيني انه ظل يتوهج ويبرق حتى بعد رحيله المأساوي المريع وهو دون الخمسين. وقد تمددت وترامت حنتوب باخضرارها وأزهارها وطيورها الغناء في تكوينه الشعري بصورة لا تخطئها العين. أنظر فقط الى أسماء قصائده.
الإنسان وطيور البحر، الطير الخداري، شجرة عباد الشمس، رحيل الطاؤوس، السمندل ملك النهار، الفراشة ملكة الليل، النخلة، حديقة النخيل، الحمامة الخضراء، الحديقة، زهرة الشمس، قصيدة المطر، وغيرها وغيرها.. ملك وطوع عبد الحي لغة الشعر. ومضى في مفازة العمق كأقصى ما يكون حتى يخيل اليك ان أمام ذلك المكان الذي وقف فيه لا يوجد موطئ قدم لواقف جديد:
هم ما رأوا غير السقوط
هنا سقوط أو هناك
وفي غد حتماً يكون
وما رأيت سوى توهج حمرة التفاحة الأولى
وقد رجعت الى بيت الغصون المزهرة
صوت تجوهر في حوافي الغيب
صمت عامر كالشمس مصباح توهج
في دم اللغة القديمة مبهماً كالحلم
ماء مترع
في علبة البلور محتبس
وروح من لهيب أزرق
قد أسرجتها الشمس
في كهف الدماء
غلب الحنين بها ففاضت
واستحرت بكرة نشوى الفطام
وتحرق الجسد المعرى من كساء ربيعه
لكن هذا ليس وقتاً للبكاء
هي لمحة عبرت وقد رجع الملاك بها الى شمس الغناء
غربت منذ زمان بعيد شمس تلك المدارس المدهشة وتبدل سلم التعليم ومنهجه وانفض السمار من طلاب ومعلمين وعمال.. أدت تلك المدارس رسالتها كأفضل ما يكون وتخرج فيها بناة السودان الحديث في كافة المجالات، ثم أفل نجمها. ما عيب السلم القديم والمنهج الذي رافقه؟ سؤال بلا إجابة. هل شارك في تغيير سلم د. محي الدين صابر تربويون ومعلمون ومخططون خرجهم السلم القديم أم أن القرار كان سياسياً؟ وإن كان سياسياً من زين للنميري السلم الجديد وهو من خريجي القديم ورأى بعينيه في حنتوب النجاح الذي رافق السلم القديم؟.
السلم القديم أيها الناس علمنا خارج المقر الدراسي الشعر والكتابة والمسرح والموسيقى والخطابة ووسع مداركنا مبكراً فحفظنا الثقافة العربية والأجنبية واستوى عودنا كانضر ما يكون واتسعت آفاقنا واحطنا يافعين بأخبار العالم وما يدور في الدنيا من أحداث. هل مكَّن المنهج الجديد أولادنا من ذلك؟.
لم تكن دفعتنا مميزة دون سواها. كل دفعة كان فيها الأفذاذ في المجال الأكاديمي والرياضي والثقافي..
جاءت من بعدنا دفع عمر محمود خالد ومحي الدين الفاتح ويعقوب عبدالماجد وغيرهم ومضت حنتوب تؤدي رسالتها بتفوق عظيم فقد تضافر على وضع الـ system أفذاذ التربية من خواجات وأولاد بلد ودرنا جميعاً في دولاب ذلك الـ system دون أدنى تعديل ولا تغيير. وقف هاشم ضيف الله بقامته الفارعة الرياضية يودعنا في حفل تخرجنا من حنتوب وأخبار نجاحنا في دخول جامعة الخرطوم تظلل سماء الحفل بالألق والرضا. وطفق يوزع الميداليات والكؤوس التي امتلأت بها منضدة كبيرة أمامه. ظفر يحيى الحاج ابراهيم بكأس التمثيل وقد امتهنه في حياته وجاءنا ونحن بلندن يحضر الماجستير في الدراما وظفرت وزميلي عوض الجيد محمد احمد بكؤوس الشعر والأدب وظفرت أيضاً بكأس كرة السلة. وظفر باب الله قسم الله بكأس الضاحية ومصطفى محمد سليمان (خبير وبروفيسور في المراعي) الآن بكأس الزوارق وفاز مصطفى أحمد المصطفى والرشيد النوراني وعز الدين جلال بكؤوس كرة القدم وعدلان الصديق بكأس التدريب العسكري والحاج الصديق طه بالإلقاء الانجليزي وعمر إمام بكأس الرئيس المثالي. وتوالت الكؤوس والميداليات مما يضيق المجال ويضيق ملف الذكرى بذكر كل من فاز في تلك الأمسية فليعذرني زملائي الذين لم أذكرهم في هذا المقال وليذكرني من يذكر لأشمل ذكره في المقال القادم.
أهداني استاذنا بروفيسور أحمد ابراهيم أبوسن كتابه الجديد (المؤانسة والامتاع) وهو كتاب شيق سلس حفل بالذكريات والشعر وروائع الأدب. وبروفيسور ابوسن سبق ان أصدر سفراً قيماً باسم (الإدارة في الاسلام) كان من أهم مراجعي وأنا أحاضر وأكتب في إطار استشارية عن الإدارة في المملكة السعودية بتمويل من وزارة الشؤون البلدية والقروية. وعن حنتوب التي كان البروفيسور أحد خريجيها بقول:
(وفي الطريق الى حنتوب دلفت الى دكان الترزي ويسمى (اليوسفان) بودمدني ويبدو انهما ترزيان بنفس الاسم ويعملان كشريكين واستلمت الزي المكون من قميص ورداء الكاكي ثم عبرنا النيل الأزرق ببنطون المدرسة وسائقه يسمى عبده وظهرت لنا حنتوب الجميلة في اخضرار وبهجة تزدان بأشجار التنضدب الخضراء وبالميادين الرياضية المعدة إعداداً جيداً ونزلت بداخلية عثمان دقنة مع زميلي وصديقي عز الدين علي مالك رحمه الله.. وقد أدهشني البروفيسور بذاكرته الفذة وهو يعدد أبناء دفعته ويذكر المجالات التي امتهنوها في مقبل أيامهم (أما زملاء دفعتي في الدراسة الذين التحقوا بحنتوب في عام 1950 و الذين انخرطوا في العمل الطبي د. حسن كاشف، د. عبد القادر ساتي، د. عبد المنعم كشان، د. محمد سعيد الريح والذين ذهبوا للجيش والشرطة اللواء شرطة اسماعيل عطية واللواء شرطة قرشي محمد فارس والفريق شرطة عبد الله حسن سالم والفريق عز الدين علي مالك واللواء نور الدين المبارك واللواء مبارك عثمان نصر والفريق يوسف أحمد يوسف). ويمضي بروفيسور أبوسن في ذكر أبناء دفعته جميعهم في مجالات عملهم دون ان تسقط ذاكرته أحداً.
واسأل كيف تم اختيار قرية حنتوب مكاناً لتلك المدرسة الأسطورية التي غذت السودان بالرجال في كافة المجالات.. وتصلني الإجابة من استأذي المؤلف الأديب الأريب الطيب علي عبد الرحمن وهو من طلاب ومعلمي حنتوب.. يقول لي نقلاً عن مولانا محمد أبوزيد ان الاتجاه الأول كان ان يتم تشييد المدرسة في المديرية الشمالية ثم تعدل الأمر لتذهب لمديرية النيل الأزرق وتم اقتراح سنار ثم الشكابة ثم المدينة عرب. وفي اجتماع ضم رهطاً من زعماء الأهالي بودمدني ترأسه المستر بريدن مدير مديرية النيل الأزرق ضم الشيخ أبوزيد وصالح بحيري اقترح شيخ أبوزيد قرية حنتوب مكاناً للمدرسة ووجد الاقتراح قبولاً من مدير المديرية والحاكم العام وفي المسوحات الميدانية للأرض المجاورة للقرية وجد المستر بريدن ان جل الحيازات مملوكة للشيخ أبوزيد والسيد الكارب فتنازل الإثنان عن أراضيهما لوجه الله والتعليم، والمستر براون هو الذي قرر ان يكون رمز المدرسة الهدهد لكثرة الهداهد في تلك الأنحاء. فتأمل بالله عليك أريحية وبعد نظر الشيخ أبوزيد والكارب أما حق لأهل السودان الاحتفاء بذكرى هذين المحسنين وقد قل وتلاشى في هذا الزمان الإحسان. عطر الله ثرى كل من تنازل عن ماله طائعاً في سبيل المعرفة شيخ أبوزيد، الكارب، عبد المنعم محمد، البغدادي، وقبلهم السيد عبد الرحمن، ونذكر أيضاً السلمابي والضو حجوج وجابر أبو العز وبابكر ود الجبل ومن الذين وهبوا أرضهم على سعتها من أجل إزدهار الرياضة شاخور وكيشو والطيب عبد الله وغيرهم. غير ان الإحسان كاد ان يتلاشى في هذا الزمان.
اتصل بي من المانيا الصديق حسين عثمان البطري يشيد بمقالات حنتوب ويضيف وحسين من أبدع عازفي الكمان في البلاد.. ولا أنسى دخوله علينا في لندن ونحن نقيم حفلاً لصديقه د. رمضان. دخل علينا بكمانه والجليد يكسو مصطفى لوناً أبيض ليشجينا بعزفه البديع. اليه والى محجوب بطري أول من اتصل بي مهنئاً بمنصبي الجديد تحياتي وودادي وعرفاني.
وقف هاشم ضيف الله في صبيحة يوم من أيام عام 1963م في اجتماع المدرسة يخبرنا بقراره ان يذهب جميع طلاب المدرسة لقرى الجزيرة والمناقل للمشاركة في جني القطن فسرت منا همهمة ونحن جلوس على النجيلة بما يعني الامتعاض فاستشاط غضباً وخاطبنا (هل تمانعون. هل أتينا بكم هنا لتأكلوا وتنعموا.. ألا تعرفون الوطنية؟) فتوجهنا ونحن في خجل الى البنطون لتقلنا العربات في الشاطئ الآخر الى الحواشات. كنا والحق يقال في حنتوب في بهجة وفي نعيم لا نريد له فراقاً.. كانت الوطنية عند هاشم ضيف الله تعني انكباب الطلاب على الانضباط والتحصيل والرياضة دون الانشغال بالسياسة في المرحلة الطلابية وبعد التخرج لهم ان يفعلوا ما يريدون. كان يريد مدرسة خالية من المظاهرات والاضراب والاعتصام. وكنا في العمر الثوري نتابع كل ما يجري في البلاد من أحداث ونتفاعل مع قضايا الوطن وبدأ يتشكل ويتنامى في دواخلنا الوعي السياسي.
كان محمد عبد الحي الشاعر العبقري الفذ أكثر النجوم سموقاً في سمائنا في ذلك الزمان ويقيني انه ظل يتوهج ويبرق حتى بعد رحيله المأساوي المريع وهو دون الخمسين. وقد تمددت وترامت حنتوب باخضرارها وأزهارها وطيورها الغناء في تكوينه الشعري بصورة لا تخطئها العين. أنظر فقط الى أسماء قصائده.
الإنسان وطيور البحر، الطير الخداري، شجرة عباد الشمس، رحيل الطاؤوس، السمندل ملك النهار، الفراشة ملكة الليل، النخلة، حديقة النخيل، الحمامة الخضراء، الحديقة، زهرة الشمس، قصيدة المطر، وغيرها وغيرها.. ملك وطوع عبد الحي لغة الشعر. ومضى في مفازة العمق كأقصى ما يكون حتى يخيل اليك ان أمام ذلك المكان الذي وقف فيه لا يوجد موطئ قدم لواقف جديد:
هم ما رأوا غير السقوط
هنا سقوط أو هناك
وفي غد حتماً يكون
وما رأيت سوى توهج حمرة التفاحة الأولى
وقد رجعت الى بيت الغصون المزهرة
صوت تجوهر في حوافي الغيب
صمت عامر كالشمس مصباح توهج
في دم اللغة القديمة مبهماً كالحلم
ماء مترع
في علبة البلور محتبس
وروح من لهيب أزرق
قد أسرجتها الشمس
في كهف الدماء
غلب الحنين بها ففاضت
واستحرت بكرة نشوى الفطام
وتحرق الجسد المعرى من كساء ربيعه
لكن هذا ليس وقتاً للبكاء
هي لمحة عبرت وقد رجع الملاك بها الى شمس الغناء
غربت منذ زمان بعيد شمس تلك المدارس المدهشة وتبدل سلم التعليم ومنهجه وانفض السمار من طلاب ومعلمين وعمال.. أدت تلك المدارس رسالتها كأفضل ما يكون وتخرج فيها بناة السودان الحديث في كافة المجالات، ثم أفل نجمها. ما عيب السلم القديم والمنهج الذي رافقه؟ سؤال بلا إجابة. هل شارك في تغيير سلم د. محي الدين صابر تربويون ومعلمون ومخططون خرجهم السلم القديم أم أن القرار كان سياسياً؟ وإن كان سياسياً من زين للنميري السلم الجديد وهو من خريجي القديم ورأى بعينيه في حنتوب النجاح الذي رافق السلم القديم؟.
السلم القديم أيها الناس علمنا خارج المقر الدراسي الشعر والكتابة والمسرح والموسيقى والخطابة ووسع مداركنا مبكراً فحفظنا الثقافة العربية والأجنبية واستوى عودنا كانضر ما يكون واتسعت آفاقنا واحطنا يافعين بأخبار العالم وما يدور في الدنيا من أحداث. هل مكَّن المنهج الجديد أولادنا من ذلك؟.
No comments:
Post a Comment