Saturday, 9 February 2008

السيد خلف الله الرشيد رئيس القضاء الأسبق

حنتوب وتشكيل الوعي الحديث عن حنتوب طويل جداً ونحن لا نعتبرها مجرد مدرسة فقط وإنما كانت معهداً تربوياً لأن عدد الطلاب كان قليلاً والمدرسة عملت بنظام حديث من حيث أسلوب الدراسة لوجود نشاطات كثيرة بخلاف النشاط الأكاديمي مثل المسرح، وكان الطلاب يقومون بعرض مسرحيات عالمية لشكسبير وهمنغواي وكان اسلوب الدراسة المتبع يتيح للطالب التحصيل الأكاديمي ومتابعة النشاطات الأخرى وكنت أتذوق القراءات الأدبية . وأعجبت بها جداً فوسعت آفاقي، ومن الأشياء المهمة التي كنا ندرسها في حنتوب مبادئ الاقتصاد والسياسة، ونجد أن المدرسة خرجت أغلب القيادات التي قادت السودان في الحقب المختلفة وعندما دخلت حنتوب عام 1947 وجدت من الطلاب محجوب محمد صالح شيخ الصحافة السودانية . والصحافي والقيادي المفكر وعبدالخالق محجوب (سكرتير الحزب الشيوعي السوداني) لاحقاً والرئيس السابق جعفر نميري ود. حسن الترابي (الأمين العام للمؤتمر الشعبي) الذي جاء إلى حنتوب بعدنا بعام لكنه درس معنا القانون. كذلك هناك ميرغني النميري (عضو مجلس راس الدولة السابق) . ودفع الله الدمني (رئيس قضاء سابق) ومحيي الدين عووضة (وزير سابق) وزكي الدين أحمد (من كبار الجراحين) وحداد عمر (طبيب كبير) ود. أحمد إبراهيم دريج (حاكم إقليم دارفور السابق ورئيس التحالف الفيدرالي المعارض). وفي عام 1947 عندما دخلت حنتوب تم نقل الزعيم الأزهري (أول رئيس حكومة وطنية) من الخرطوم إلى حنتوب بقرار من الإنجليز وكان يعمل معلماً بسبب نشاطه السياسي وعند وصوله إلى المدرسة قال مقولته الشهيرة (لو نقلونا حنتوب ما حانتوب) أي بمعنى أن قرار نقله لن يؤثر عليه في مواصلة عمله السياسي المناهض للاستعمار. سودانيون وعرب كانت علاقات الطلاب بالمدرسة ممتازة جداً وكذلك العلاقة بين الأساتذة والطلاب مثلاً نجد أن الأستاذ هاشم ضيف الله كان يحب المسرح ويدرس مادة الجغرافيا وهو أول من أدخل الرحلات الجغرافية في المنهج التعليمي وزرنا الكثير من المواقع داخل السودان. كما أن أسلوب الدراسة في الفصول الذي كان يتبع نظام المجموعات قوى العلاقة بين الطلاب . وهم كانوا من كل أنحاء السودان وكان اجتماع الصباح قبل السابعة صباحاً يخاطبه مدير المدرسة ويتحدث فيه مع الطلاب عن السلبيات ويحثهم على الدراسة. ولقد أسهم نظام المجموعات داخل الفصول في انصهار الطلاب من كل أقاليم السودان بكل أعراقهم في بوتقة واحدة ولم تكن هناك فوارق قبلية بين الطلاب. وكنا أسرة واحدة وكان لي أصدقاء من غرب السودان على رأسهم أحمد إبراهيم دريج ومحمود بشير جماع وزيران سابقان وكان يدرس معنا أيضاً في ذلك الوقت الرئيس الصومالي عبد الرحمن شارماركي وبعض الطلاب من دولة اليمن. الأحزاب في ذلك الوقت لم يكن لها وجود في أوساط الطلاب ولكن نحن كنا نتفاعل مع الأحداث السياسية التي تسود الساحة السودانية، ولقد خرجنا في تظاهرات عام 1948 ضد الجمعية التشريعية (البرلمان) الذي أسسه الإنجليز تضامناً مع التظاهرات التي شهدتها مدن الخرطوم وبورتسودان ومدني. ـ لكن زملاء الدراسة منهم من ينتمي لأقصى اليمين والآخر لأقصى اليسار ألم تشهد المدرسة حالة استقطاب وسط الطلاب لأحد التيارين؟ ـ لقد بدأ الشيوعيون عام 1949 نشاطاً مكثفاً في المدرسة مما جعل بعض الطلاب (المتدينين) يتحركون وأسسوا، ما يعرف بالدعوة الإسلامية وكنت عضواً في هذه الجمعية وهي نشأت كعمل مضاد للنشاط الماركسي اليساري الإلحادي في المدرسة الذي رأينا أنه سيحدث خللاً في البناء الاجتماعي. لعل من الغريب جداً أن داخلية أبوعنجة تعتبر من أهم الداخليات في المدرسة لأنها خرجت القيادات السياسية كافة التي أثرت على الساحة السودانية، فمن هذه الداخلية تخرج الرئيس السابق جعفر نميري والدكتور حسن الترابي الزعيم الإسلامي المعروف وشوقي ملاسي أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان ومحمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي. وكان مؤسسو حركة الدعوة الإسلامية من الداخلية نفسها وأبرزهم بابكر كرار (القيادي الإسلامي الاشتراكي المعروف) وأحد الذين ساهموا في الكتاب الأخضر، وميرغني النميري. وهو كلف بتكوين خلايا للاخوان المسلمين وفي المقابل كان الطالب محمود جاد كريم (من مؤسسي الحزب الشيوعي) يقود العمل اليساري في المدرسة وعلى الرغم من الخلاف الفكري الضيق بين التيارين إلا أن الخلاف لم يخرج يوماً عن الجدل الفكري

مصطفى محمد على يكتب عن حنتوب وذكرياتها

ذكريات حنتوب الجميلةكانت كلية غردون التذكارية المدرسة الثانوية الوحيدة في السودان و مقرها جامعة الخرطوم حالياً، و عندما ظهرت المدارس العليا نقلت المدرسة الثانوية ذات الستة انهر الي ام درمان.حنتوب و وادي سيدنا: لاسباب سياسية لابعاد الطلاب عن العمل الوطني بالعاصمة . تم نقل ثلاثة انهر الي وادي سيدنافي بداية العام الدراسي مطلع 1946م، اما النهرين الباقيين فقد تقرر بقاؤهما في ام درمان ريثما تكتمل مباني حنتوب، و لكن اشتراك الطلاب في وداع وفد السودان الي مصر، ادى لنقلها الي مقرها في منتصف العام الدراسي 1946.نقل الازهري لحنتوب: تقرر ذلك لاسباب لا تخفي علي احد، لكنه رفض تنفيذه و اطلق قولته: نقلوني حنتوب برضه مش ح "نتوب".الهدهد شعار حنتوب: وصل الطلاب الي حنتوب ، استقبلهم المستر بروان مدير المدرسة، كما استقبلتهم اسراب من الطيور، قال المستر براون: ما اسم هذا الطائر بالعربية؟ اجابوا "الهدهد" قال سيكون هذا شعار المدرسة.الفنان الراحل الخير عثمان : كان صديق المدرسة، يقوم باحياء لياليها الغنائية مساء كل خميس، لتسعين في المائة من طلابها الذين لا يملكون خمسة قروش تكفي لمشاهدة السينما في مدني،
"كان الفنان الخير يبدأ و يختتم الامسية باغنية "حنتوب الجميلة..للنيل باقية شامة و الهدهد علامة"..و كان الطلاب الي جانب المستر براون يتصايحون و يتمايلون طرباً، و ما زالت هذه الاغنية و لاكثر من نصف قرن تدغدغ احاسيس خريجي حنتوب، و لا شك ان المشاهدين قد لحظوا تعابير الفرح في وجوه خريجي حنتوب ممن يستضيفهم التلفزيون، و كانهم يستمعون اليها للمرة الاولى، و كان آخرهم الاستاذ محمد احمد سالم، المستشار القانوني للمجلس الوطني.عبد الحميد يوسف: الفنان الكبير كان يعمل في اعمال بناء المدرسة، وكان احياناً يشارك في احياء ليالي حنتوب باغنيته الخالدة "علي كل حال غضبك جميل زي بسمتك".فنانو الغناء من الطلاب: اذكر اشهر اربعة منهم: عمر عبدالله البنا، الخير ساتي، الهادي سليم المحامي حالياً، محمد ابراهيم نقد. امل ان لا اكون قد اذعت سراً..يدعوا ابناء هؤلاء الكبار ، ممن تكون قد اصابتهم حمى الفن بالوراثة، من مواجهتهم مرددين: من شابه اباه فما ظلم."
هذا المقال نشرته جريدة الفجر اللندنية في يوم 9 اغسطس 1998م و ذلك قبل توقفها. والمقال بقلم مصطفى محمد علي و الذي كان ان نشره قبل ذلك في جريدة الرأي العام.

دكتور محمد الخليل الكارب وذكرياته عن حنتوب

عزيزي وأخي الصديق (قرشو)هزّني من الأعماق ذلك (البوست) منك عن حنتوب – الجميلة – ولست أعرف كيف أعلق على ما حملته أولى سطورك عن (صلحة) وما كانته صلحة لك وأنت تتذكر حنتوب أو تكتب عنها .. خماسين من الأحزان يا صديقي وأخي العزيز، لكن رياح الحزن العاصفة تتكشف دوماً عن حضور صلحة البهي في دواخل أصدقائها الكثيرين أما من سكن حنتوب منهم أو تذكرها عابراً أو حتى جاءها معزياً في صلحة فهؤلاء هم أهل الوجعة .. وهم أخوان الصفا وزملاء الطريق ورفاق الزمن الجميل وباسمهم واسمنا جميعاً أنا شقيق (صلحة) وباسم أسرتها وأهلها وأصدقائها وأبيات شعرها نعقد لك يا (قرشو) لواء الوفاء لها وتذكر زمانها وزمان حنتوب الندي ونقف معك مستعينين بروحها الرقيقة المقاتلة وصبرها الجميل وطبعها الوثاب لعلنا تتماسك منا الأيادي أمام حزن يولد في كل لحظة من جديد.وبعد يا قرشو، لم ننفرد نحن بحب حنتوب وهذا لا يحتاج إلى تأكيد، تكفي قراءة كل كلمة في التعقيبات الكثيرة على بوستك المحضور وتكفي الخمسين عاماً والخمسين دفعة مرت على حنتوب والعشرين جيلاً أو يزيد فنحن في زمن تكفي السنوات الخمس منه لتطلع على الأوجه جديد الملامح ولتتشكل في الدواخل رؤى كان يحتاج طلوعها إلى الأعوام المديدة .. نحن لم ننفرد بحنتوب .. لكننا انفردنا أنا وأنت وصلحة وأسرتينا والعديدين غيرنا بأننا لم نمر على حنتوب لسنوات أربع أو ثلاث قبل أن نغادر إلى الدنيا الواسعة لكننا مكثنا طفولتنا وصبانا وبعض شبابنا في أحضانها الوارفة وجناتها الغناء، صحيح أن الزمن لم يتركنا لهانيء العيش في تلك الربوع وها نحن مثل الجميع نضرب في أربع أركان الأرض لكننا نحن في زمان ما قبل الشتات كنا هنالك في حلم طويل جميل .. وحنتوب تغسل شعرها الطويل على ضفاف الأزرق العظيم قبل أن تجدله ضفائراً من جذور الأكاسيا واللبخ والنهر ينحدر إليها فاتحاً ذراعيه على امتدادهما في شوق عظيم قبل أن يميل إلى الغرب منها كأنه لا يريد أن يغادر ثم يخاصرها شمالاً ويلتقي في شرقها برافده الموسمي الوفي ذلك الذي في بلاد أخرى يسمونه نهراً بينما نحن لمعرفتنا بعزّنا النيلي الكبير (والعارف عزو مستريح) لا نعطيه اسماً أكبر من (رهد) ثم يمضي النهران متحدين في المسيرة الخالدة نحو لقاء الأبيض الشاسع (لصلحة قصيدة بديعة تحكي عن ذلك وتخرج منه بمعان جديدة) ... يا للرواء ويا لحظك يا حنتوب ويا لسعدك يا سودان ثم ما أشقى كل تلك الأماكن بماء مسكوب تركته وراءها قوافل الهجرة وذهبت تستمطر سحاب الأماني في صحارى العالم ودنياوات الجليد دون أن تُروى من عطشٍ ولا حنين، هل كتبت عن الماء المسكوب؟ إذن لا بد لي أن أتحدث عن الظل الممدود لأقول لك يا صديقي العزيز إن هذا الأخير قد (وقف وما زاد) كما يقول صديقنا الأستاذ عمر الدوش، وأوشك أن أضيف أنه ربما قصّر حتى لم يعد يتجاوز أساسات البيوت الطين التي غادرها الدفء وغادرها الشباب في زمن الجوع والصحراء والسل الذي عرّش أحقاداً ودولة كما يقول صديقي الآخر (راشد خالد حفظ الله) وكنت دوماً أتساءل ولا زلت أعيد السؤال (كيف يمكن لأي ذرة واحدة من رمال أن تتجرأ على تحالف الغيوم والنيل والمطر؟) لكن لدي وسط صحارى الهم هذه ما يبعث على الفرح، فحنتوب ما زالت تقاوم (مثلما روما بعينيها وقفت في وجه الحريق) ولا يزال النيل يحتضنها والرهد ويزورها الخريف ويأتي إليها في المواسم البجع .. يكفي أن تقطع النيل عبر الكبري ثم تجيل النظر لتقتحم الخضرة عينيك معلنة نصرها الأسطوري على الرمال .. ولا تزال هنالك قبائل الهدهد بل وشهد خريف هذا العام جيوش الصرفة ودبوية المطر ... قال أحد المعلقين على البوست الأصلي لقرشو معقباً على مداخلة أحد المارين على مدرسة حنتوب في الثمانينات ما معناه بأن ما رآه الأخير وأعجب به هو فقط ما تبقى من حنتوب .. أوافق طبعاً على ذلك .. لكني أضيف .. إن ما تبقى ليس بقليل مقارنة بما يحدث في مناطق أخرى من بلادي التي تخترقها الأنهار طولاً وعرضاً، أما ما كان فبالإمكان إعادته سيرته الأولى وبأيدينا نحن، فليس تنقص أجيالنا الإمكانات وفينا في كل مجال مرموق يشار إليه بكل الأصابع ولنبدأ بما تيسر، فالطبيعة لا تزال معنا والنهر الخالد لم يزل وحنتوب بل السودان كله أراض خصبة لكل غارس وزارع حُبٍّ وحَبٍّ وشجر .. ولي في هذا المجال تجربة صغيرة لكنها لا تخلو من دلالات، فلقد أنشأت داخل منزلنا الشاسع (شأن كل بيوت حنتوب) مسطحين خضّرتهما بالنجيلة وغرست حولهما ما تيسّر من شتول ووفرت لهما وسيلة للسقيا الدائمة ولم أصدق عيني عندما عدت بعد شهور ستة، فلقد انقلب المكان لشيء آخر، وجاءت الخضرة بكل الرياحين والفراشات والطيور، وأظن أن بإمكان أن أرفق صوراً من ذلك المكان البديع، لكننا نكتفي الآن بصورة نخلة تتوسط الميدان لا شبيه لسموها وسموقها ولا مثيل للقمرة الساطعة وسط جريدها المشرئب إلى أعلى السماء .. وأعود الآن إلى قرشو .. إلى حنتوب زمانئذٍ وما أدراك ما حنتوب .. سباقات الماراثون التي كنا نتابعها أطفالاً والطلاب يخترقون الضاحية من النهر إلى النهر مرتدين الفانيلات ذات الأرقام الملونة من الخلف، ثم مباريات كرة القدم يوم الأربعاء في الميادين الخضراء السبعة تماماً بعدد الجنان، ثم ميادين كرة السلة والتنس التي تضاهي ما نشاهده الآن على الفضائيات بانبهار ثم يوم الخميس وما أبهى أيام الخميس في حنتوب وما أروع ما كان يمسرحه طلابها في تلك الأيام .. كنا أطفالاً وشاهدنا لوممبا على المسرح وناصر وغاندي وغنى هنا وردي، محمد الأمين، وعرفنا سولارا والسمندل وسمعنا عن صمويل بيكيت ومسرح العبث .. ورأينا المنولوجات البديعة وسمعنا بالكيمياء العضوية وفيزياء الجزيئيات ونيوتن وأنشتين وطرق آذاننا المحظوظة وقتئذ خوالد المتنبي وروائع شكسبير وأبي تمام .. ويمر زمن يا صديقي ونصبح تلاميذاً في الابتدائي ونشارك ببعض الفقرات على المسرح وفي يوم الآباء وأعياد العلم نشد الحبل لتنافس مع طلاب المدرسة الثانوية ونغلبهم أحياناً ثم نشد معهم الأيادي جيلاً يتلقى عن جيل .. وتزداد معرفتنا عمقاً وسعادة اتساعاً بذلك المعهد العملاق ثم تأتي مرحلة الثانوي العام (المتوسط) ونتعرف عن قرب على عمك عبدو محمد نور (ريس الرفاص) ذلك الناصع السمرة .. الأنيق .. الوسيم.. المهيب .. الحازم والرقيق – رحمه الله رحمةً واسعة وألهم آله ومعارفه كل الصبر والسلوان – أسعدتني الظروف بمجالسته في زمن لاحق وعيادته أثناء مرضه الأخير .. وعمك عبدو مثل كل الخالدين الذين ارتبطت أسماءهم بحنتوب وعرفت قيمتهم وأصالة معدنهم أجيال الطلاب والخريجين شخص فريد بكل ما تحمل الكلمة من معنى ومعلم عظيم خصوصاً لمن عرفه طوال سنوات مديدة كحالنا أنا وقرشو وغيرنا .. ممن أقاموا في حنتوب قبل أن يدرسوا فيها ويعرف عم عبدو عشرات من طلاب وطالبات المدارس الوسطى من أهل حنتوب الذين كانوا يستغلون الرفاص جيئة وذهاباً مرتين في كل يوم في طريقهم إلى المدارس الوسطى (الثانوي العام على أيامنا) في مدني وبالتالي سنحت لهؤلاء فرصة التواجد تحت رعاية الريس عبدو محمد نور لساعتين كاملتين تقريباً في كل يوم نقضيها في أحضان النيل نتلقى منه في أثناء ذلك دروساً عظيمة وإذا كان هنالك شخص تلقينا منه خارج منازلننا كيف يكون الانضباط والنظام واحترام المرأة فذلك الشخص هو بلا منازع عمنا الريس عبدو محمد نور.. فأنت لا بد أن تكون في المشرع في الميعاد بالدقيقة والثانية، فعمك عبدو يتحرك بالرفاص صباحاً في ثاني رحلاته في الساعة السابعة إلا ربعاً تماماً (وتماماً هنا تعني كل أحرفها) وتعنيها تماماً .. وأنت إذ تتقدم لتأخذ مكانك في المركب المربوطة باحتراف وإتقان إلى الرفاص سوف لن تفعل ذلك إلا بعد أن تكون آخر الطالبات قد استقرت في مكانها المريح المحترم داخل كابينة الرفاص وإذا كنت (شليقاً) وتقدمت إلى المركب قبل ذلك فسوف تعيدك إلى مكانك خبطة قوية على الظهر بالحبل الممسك به عمك عبدو مع درس في الأخلاق ويا لروعة عمك عبدو وأناقته واحترافه ممسكاً بالحبل والرفاص يقترب وموتوره في أهدأ سرعته من ضفة حنتوب وعمك عبدو واقفاً Diagonally والحبل في يده بينما عينيه تنظران جانبياً مراقبتين في دقة حافة المركب والمشرع والرفاص معاً في الوقت ذاته وفي اللحظة ذاتها في كل مرة – في عين اللحظة وليس أبداً قبلها ولا بعدها – ترتفع يده اليسرى معطية بلغة الجسد إشارة للجالس على الماكينة لتهدر الأخيرة بالترس التقيل بينما تقذف يده الأخرى في رشاقة بالحبل ليستقر حول الصارية المنصوبة أسفل القيفة وتكون المركب في تلك الأثناء قد لامست برفق لا يكاد يحسه أحد حافة القيفة بينما اصطخبت مياه النيل في مؤخرة الرفاص حيث الدفة وامتزج صوت المياه الصاخبة بأصوات التلاميذ الفائرة بالصبا وصوت الماكينة الهادر وفوق الجميع صوت عمك عبدو وضحكته المجلجلة قافزاً إلى القيفة ومعطياً إياها في ذات القفزة ظهره بينما وجهه الوسيم تملؤه ابتسامة ترسم مع حزمه احتفالاً لا مثيل له بزحام الحياة وأصواتها الطالعة أمامه مياهاً ومعدناً وحناجر .. يا للمشهد ويا لجمال العنفوان .. بعدها نغادر المركب والرفاص، الأولاد أولاً هذه المرة بحكم وجودهم في المركب الأقرب إلى القيفة وبحكم اندفاعهم الذي لا يعترضه عمك عبدو هذه المرة وهم خارجين.. ثم يمر الجميع في كرنفال من ألوان أزياء المدارس الجميلة وقتها تحت ذلك الـ Arch البديع الذي يحمل أعلاه وبخط بديع اسم مدرسة حنتوب الثانوية وتاريخ تأسيسها في العام 1946 .. وأحبس الآن يا قرشو الدمعة وأنا أتحدث عن هذا الآرش فلقد ذهبت إلى هناك قبل عام وأنا اعتدت أن أذهب إلى المدرسة وأتجول فيها دون أدنى اهتمام بالأسوار العالية الكريهة التي وضعها سادة هذا الزمان الأصفر المشاتر حول المعهد العريق بعد أن اغتالوه .. كنت إذن أذهب وأتجول كلما عدت إلى هنالك في إجازة ولكني في ذاك العام لم أتمالك نفسي ولا دموعي ولا عجب إذ إنه كان عام الحزن .. فلم تكن قد مر على رحيل (صلحة) سوى سنة لكن دموعي عليها زادت وقتها دمعتين وأنا أقف تحت الآرش الشهير لأجده أثراً بعد عين والكتابة المحفورة عليه باسم المدرسة وتاريخ إنشائها تلوح بالكاد كباقي الوشم في ظاهر اليد.يا للمجرمين السفلة فقد عرفت أيامها أنهم حاولوا إزالة الـ Arch ذاته من مكانه ليقيموا بدله مسخاً يحمل اسماً آخر ليس له في الواقع مسمى .. يا هؤلاء إن الأمم تحتفل بأقل من ذلك وأنتم تهدمون كل ذلك ولا تطرف لكم عين !! سأحاول لاحقاً إرسال صور لذلك الـ Arch لا تتوفر لدي حالياً وأناشد كل خريجي حنتوب أن يفعلوا شيئاً وأضيف لعلمهم إن الشخص الذي كلفه هؤلاء الناس بإزالة الآرش رفض أن يفعل ذلك ودفع من رزقه القليل ثمن ذلك الموقف الشريف.منظر آخر لم يكن متصوراً حدوثه ولو في الخيال ولا حتى في الكوابيس وسوف أقوم لاحقاً بإرساله إليكم وهو منظر الغنم (المعادية تاريخياً للخضرة) وهي ترعى .. أين؟ في داخل منزل المدير وتجوس في فرنداته كما تشاء .. لا أظن أن في مقدوري التعليق على شيء كهذا !!.عدت بعدها راجلاً إلى منزلي لكن قدماي ذهبتا بي في الطريق القديم الحميم وإذا بي داخل مدرسة حنتوب الابتدائية الملاصقة لحنتوب الثانوية وإذا بي أجد نفسي واقفاً على كومة عالية من التراب وإذا بمرافقي يقول لي إنني أقف الآن على ما كان فرن ومطعم عمنا (شهودة) .. أسرعت نازلاً من هناك كالملسوع كأني أقف على قبر الرجل وليس مطعمه واتجهت بعدها شرقاً إلى الجامع المهيب (القدامي) أمام المدرسة وعند الباب وجدت الأخير موارباً قليلاً فدفعته ممنياً نفسي بمشاهدة معماره الداخلي الفريد والأثير إلى القلب والروح والحافل بالذكريات لكن ما كان بانتظاري لم يكن شيئاً من ذلك وكان في الواقع ختام مسك دهشة وحسرة وألم ذلك اليوم الطويل .. لقد وجدت – يا سادتي – داخل الجامع (عناقريباً) عليها نساء مضطجعات ومخضوبة أقدام وأيادي البعض منهن بالحناء بينما في زوايا المكان رجال وشباب بعضهم مستغرق في قيلولته وأطفال يلعبون في الزوايا والأرجاء ..!! أوصدت الباب كالملدوغ هذه المرة وتراجعت لا شعورياً خطوات عديدة إلى الوراء لأجد الباب ينفتح ويظهر بعض الشباب مرحبين بي وداعين لي بالتفضل بالدخول وأضاف بعضهم لعظيم دهشتي إنهم هنا منذ زمان يسكنون وإن هذا الجامع في الواقع هو منزلهم العامر مع الزوجات بالبنين والبنات.ولسوف أعود يا قرشو.لك ولكل محبي حنتوب الأشواق الكثيرة والحب والسلام.د. محمد خليل الكارب

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (9)


ثرثرة وذكريات:حنتوب الجميلة(9)
كامل عبد الماجد
استأثرت داخليتنا ود النجومي بكأس سباق الضاحية.. فكان هناك كباشي.. ثم سلم الراية لباب الله.. وسباق الضاحية كان أصعب ضروب الرياضة وأبطاله يعرفون فنه.. فالمسافة طويلة للغاية وإن بدأت مسرعاً سرعان ما تفقد اللياقة وتتوقف. واستأثرت النجومي أيضاً بكأس كرة السلة فكان بيننا بازا والعقب ثم استلمت منهم الراية. وكان الشيخ مصطفى بجانب كرة القدم بطل السلة بلا منازع ينافسه بهاء الدين ود الحاج وأحمد ناصر وشخصي. وكان أحمد الصائم لا ينافس في كرة المضرب والتنس.. وكان من بين الكؤوس بالنجومي كأس تنسيق حديقة الداخلية الذي كان من نصيب عمنا الجعلي فضل السيد فراش الداخلية عليه الرحمة.. وقد التقيت قبل سنوات ابنه الدكتور بدر الدين ببرلين الشرقية حيث اصبح من كبار الاختصاصيين له مستشفى خاص ويدرس في جامعة برلين. وأذكر ان استاذنا العظيم الراحل هاشم ضيف الله قد قال لنا وهو يودع دفعتنا في حفل كبير (الذي يقابلني منكم في دروب الحياة.. يقول اسمه ويقول كان بلعب شنو) لم يقل لنا يقول كان في set one ولا set two فتأمل بالله عليك حب الرجل العظيم للرياضة.
لم تكن دفعتنا مميزة دون سواها. كل دفعة كان فيها الأفذاذ في المجال الأكاديمي والرياضي والثقافي..
جاءت من بعدنا دفع عمر محمود خالد ومحي الدين الفاتح ويعقوب عبدالماجد وغيرهم ومضت حنتوب تؤدي رسالتها بتفوق عظيم فقد تضافر على وضع الـ system أفذاذ التربية من خواجات وأولاد بلد ودرنا جميعاً في دولاب ذلك الـ system دون أدنى تعديل ولا تغيير. وقف هاشم ضيف الله بقامته الفارعة الرياضية يودعنا في حفل تخرجنا من حنتوب وأخبار نجاحنا في دخول جامعة الخرطوم تظلل سماء الحفل بالألق والرضا. وطفق يوزع الميداليات والكؤوس التي امتلأت بها منضدة كبيرة أمامه. ظفر يحيى الحاج ابراهيم بكأس التمثيل وقد امتهنه في حياته وجاءنا ونحن بلندن يحضر الماجستير في الدراما وظفرت وزميلي عوض الجيد محمد احمد بكؤوس الشعر والأدب وظفرت أيضاً بكأس كرة السلة. وظفر باب الله قسم الله بكأس الضاحية ومصطفى محمد سليمان (خبير وبروفيسور في المراعي) الآن بكأس الزوارق وفاز مصطفى أحمد المصطفى والرشيد النوراني وعز الدين جلال بكؤوس كرة القدم وعدلان الصديق بكأس التدريب العسكري والحاج الصديق طه بالإلقاء الانجليزي وعمر إمام بكأس الرئيس المثالي. وتوالت الكؤوس والميداليات مما يضيق المجال ويضيق ملف الذكرى بذكر كل من فاز في تلك الأمسية فليعذرني زملائي الذين لم أذكرهم في هذا المقال وليذكرني من يذكر لأشمل ذكره في المقال القادم.
أهداني استاذنا بروفيسور أحمد ابراهيم أبوسن كتابه الجديد (المؤانسة والامتاع) وهو كتاب شيق سلس حفل بالذكريات والشعر وروائع الأدب. وبروفيسور ابوسن سبق ان أصدر سفراً قيماً باسم (الإدارة في الاسلام) كان من أهم مراجعي وأنا أحاضر وأكتب في إطار استشارية عن الإدارة في المملكة السعودية بتمويل من وزارة الشؤون البلدية والقروية. وعن حنتوب التي كان البروفيسور أحد خريجيها بقول:
(وفي الطريق الى حنتوب دلفت الى دكان الترزي ويسمى (اليوسفان) بودمدني ويبدو انهما ترزيان بنفس الاسم ويعملان كشريكين واستلمت الزي المكون من قميص ورداء الكاكي ثم عبرنا النيل الأزرق ببنطون المدرسة وسائقه يسمى عبده وظهرت لنا حنتوب الجميلة في اخضرار وبهجة تزدان بأشجار التنضدب الخضراء وبالميادين الرياضية المعدة إعداداً جيداً ونزلت بداخلية عثمان دقنة مع زميلي وصديقي عز الدين علي مالك رحمه الله.. وقد أدهشني البروفيسور بذاكرته الفذة وهو يعدد أبناء دفعته ويذكر المجالات التي امتهنوها في مقبل أيامهم (أما زملاء دفعتي في الدراسة الذين التحقوا بحنتوب في عام 1950 و الذين انخرطوا في العمل الطبي د. حسن كاشف، د. عبد القادر ساتي، د. عبد المنعم كشان، د. محمد سعيد الريح والذين ذهبوا للجيش والشرطة اللواء شرطة اسماعيل عطية واللواء شرطة قرشي محمد فارس والفريق شرطة عبد الله حسن سالم والفريق عز الدين علي مالك واللواء نور الدين المبارك واللواء مبارك عثمان نصر والفريق يوسف أحمد يوسف). ويمضي بروفيسور أبوسن في ذكر أبناء دفعته جميعهم في مجالات عملهم دون ان تسقط ذاكرته أحداً.
واسأل كيف تم اختيار قرية حنتوب مكاناً لتلك المدرسة الأسطورية التي غذت السودان بالرجال في كافة المجالات.. وتصلني الإجابة من استأذي المؤلف الأديب الأريب الطيب علي عبد الرحمن وهو من طلاب ومعلمي حنتوب.. يقول لي نقلاً عن مولانا محمد أبوزيد ان الاتجاه الأول كان ان يتم تشييد المدرسة في المديرية الشمالية ثم تعدل الأمر لتذهب لمديرية النيل الأزرق وتم اقتراح سنار ثم الشكابة ثم المدينة عرب. وفي اجتماع ضم رهطاً من زعماء الأهالي بودمدني ترأسه المستر بريدن مدير مديرية النيل الأزرق ضم الشيخ أبوزيد وصالح بحيري اقترح شيخ أبوزيد قرية حنتوب مكاناً للمدرسة ووجد الاقتراح قبولاً من مدير المديرية والحاكم العام وفي المسوحات الميدانية للأرض المجاورة للقرية وجد المستر بريدن ان جل الحيازات مملوكة للشيخ أبوزيد والسيد الكارب فتنازل الإثنان عن أراضيهما لوجه الله والتعليم، والمستر براون هو الذي قرر ان يكون رمز المدرسة الهدهد لكثرة الهداهد في تلك الأنحاء. فتأمل بالله عليك أريحية وبعد نظر الشيخ أبوزيد والكارب أما حق لأهل السودان الاحتفاء بذكرى هذين المحسنين وقد قل وتلاشى في هذا الزمان الإحسان. عطر الله ثرى كل من تنازل عن ماله طائعاً في سبيل المعرفة شيخ أبوزيد، الكارب، عبد المنعم محمد، البغدادي، وقبلهم السيد عبد الرحمن، ونذكر أيضاً السلمابي والضو حجوج وجابر أبو العز وبابكر ود الجبل ومن الذين وهبوا أرضهم على سعتها من أجل إزدهار الرياضة شاخور وكيشو والطيب عبد الله وغيرهم. غير ان الإحسان كاد ان يتلاشى في هذا الزمان.
اتصل بي من المانيا الصديق حسين عثمان البطري يشيد بمقالات حنتوب ويضيف وحسين من أبدع عازفي الكمان في البلاد.. ولا أنسى دخوله علينا في لندن ونحن نقيم حفلاً لصديقه د. رمضان. دخل علينا بكمانه والجليد يكسو مصطفى لوناً أبيض ليشجينا بعزفه البديع. اليه والى محجوب بطري أول من اتصل بي مهنئاً بمنصبي الجديد تحياتي وودادي وعرفاني.
وقف هاشم ضيف الله في صبيحة يوم من أيام عام 1963م في اجتماع المدرسة يخبرنا بقراره ان يذهب جميع طلاب المدرسة لقرى الجزيرة والمناقل للمشاركة في جني القطن فسرت منا همهمة ونحن جلوس على النجيلة بما يعني الامتعاض فاستشاط غضباً وخاطبنا (هل تمانعون. هل أتينا بكم هنا لتأكلوا وتنعموا.. ألا تعرفون الوطنية؟) فتوجهنا ونحن في خجل الى البنطون لتقلنا العربات في الشاطئ الآخر الى الحواشات. كنا والحق يقال في حنتوب في بهجة وفي نعيم لا نريد له فراقاً.. كانت الوطنية عند هاشم ضيف الله تعني انكباب الطلاب على الانضباط والتحصيل والرياضة دون الانشغال بالسياسة في المرحلة الطلابية وبعد التخرج لهم ان يفعلوا ما يريدون. كان يريد مدرسة خالية من المظاهرات والاضراب والاعتصام. وكنا في العمر الثوري نتابع كل ما يجري في البلاد من أحداث ونتفاعل مع قضايا الوطن وبدأ يتشكل ويتنامى في دواخلنا الوعي السياسي.
كان محمد عبد الحي الشاعر العبقري الفذ أكثر النجوم سموقاً في سمائنا في ذلك الزمان ويقيني انه ظل يتوهج ويبرق حتى بعد رحيله المأساوي المريع وهو دون الخمسين. وقد تمددت وترامت حنتوب باخضرارها وأزهارها وطيورها الغناء في تكوينه الشعري بصورة لا تخطئها العين. أنظر فقط الى أسماء قصائده.
الإنسان وطيور البحر، الطير الخداري، شجرة عباد الشمس، رحيل الطاؤوس، السمندل ملك النهار، الفراشة ملكة الليل، النخلة، حديقة النخيل، الحمامة الخضراء، الحديقة، زهرة الشمس، قصيدة المطر، وغيرها وغيرها.. ملك وطوع عبد الحي لغة الشعر. ومضى في مفازة العمق كأقصى ما يكون حتى يخيل اليك ان أمام ذلك المكان الذي وقف فيه لا يوجد موطئ قدم لواقف جديد:
هم ما رأوا غير السقوط
هنا سقوط أو هناك
وفي غد حتماً يكون
وما رأيت سوى توهج حمرة التفاحة الأولى
وقد رجعت الى بيت الغصون المزهرة
صوت تجوهر في حوافي الغيب
صمت عامر كالشمس مصباح توهج
في دم اللغة القديمة مبهماً كالحلم
ماء مترع
في علبة البلور محتبس
وروح من لهيب أزرق
قد أسرجتها الشمس
في كهف الدماء
غلب الحنين بها ففاضت
واستحرت بكرة نشوى الفطام
وتحرق الجسد المعرى من كساء ربيعه
لكن هذا ليس وقتاً للبكاء
هي لمحة عبرت وقد رجع الملاك بها الى شمس الغناء
غربت منذ زمان بعيد شمس تلك المدارس المدهشة وتبدل سلم التعليم ومنهجه وانفض السمار من طلاب ومعلمين وعمال.. أدت تلك المدارس رسالتها كأفضل ما يكون وتخرج فيها بناة السودان الحديث في كافة المجالات، ثم أفل نجمها. ما عيب السلم القديم والمنهج الذي رافقه؟ سؤال بلا إجابة. هل شارك في تغيير سلم د. محي الدين صابر تربويون ومعلمون ومخططون خرجهم السلم القديم أم أن القرار كان سياسياً؟ وإن كان سياسياً من زين للنميري السلم الجديد وهو من خريجي القديم ورأى بعينيه في حنتوب النجاح الذي رافق السلم القديم؟.
السلم القديم أيها الناس علمنا خارج المقر الدراسي الشعر والكتابة والمسرح والموسيقى والخطابة ووسع مداركنا مبكراً فحفظنا الثقافة العربية والأجنبية واستوى عودنا كانضر ما يكون واتسعت آفاقنا واحطنا يافعين بأخبار العالم وما يدور في الدنيا من أحداث. هل مكَّن المنهج الجديد أولادنا من ذلك؟.

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (8)

في عام 1963 هطلت أمطار غزيرة بالمناقل وما حولها من قرى، ولم يكن من سبيل وأنا بقريتنا (ود الزين) في شمال المناقل، للعودة إلى حنتوب وقد انتهت الإجازة وذلك من جراء تلك الأمطار الغزيرة.. فرتب والدي عليه الرحمة أمر سفري على ظهر جمل خلف أحد أبناء عمومتي.. وبعد رحلة يومين في وحل ومياه، برك الجمل قرب البنطون بود مدني وقفزت متأبطاً شنطتي أنظر لزملائي في البنطون بزهوٍ عجيب.. فتأمل بالله عليك أبناءنا اليوم وما يعيشون فيه من دعة وترف عيش. تعهدتنا بالمشرب والمأكل والمأوى حكومة جمهورية السودان القديمة جزاها الله عنا كل الجزاء.. 12 عاماً في الداخليات وغيرنا 16 عاماً (أي كل المراحل) غير أني ولجت الداخلية من الوسطى ثم الثانوي والجامعة.. ورحلة طلب العلم كانت في ما مضى هي التي تشكل ذات الإنسان في بلادنا وحياة الداخليات هي التي عجمت عودنا وصقلت أنفسنا وعلمتنا الاعتماد على النفس وأتاحت لنا معرفة أبناء كافة فجاج السودان.. أما حنتوب فقد كانت الذروة في فترتنا الدراسية وكانت المحطة الأكثر ألقاً في سكة قطار رحلتنا التعليمية.. أذكر وأنا أحدق اليوم عبر ضباب الذكرى أذكر العشب المبلل بالندى في المساحة بين داخلية النجومي وقرية حنتوب وجلوسنا فوقه وأنسنا ومراحنا..
(قال لي فوق ندى العشب الخريفي
والثعابين لها نحو الصديقين التفات
يا صلاح..
ما حياتي إن أنا قضيتها دون أن ابني بناءً للغد".
نعم جلس على ذات العشب الناعم الشاعر الفذ صلاح احمد إبراهيم وصديقه شيبون وغيرهم.. وأصبحت جلساتنا البريئة وأنسنا الغرير ذكرى لا تبارحنا.. أذكر للآن تلك الزهرة البرية البيضاء التي تطبق على معظم مساحة العشب وأذكر أسراب الفراشات التي توسع المكان جيئة وذهاباً.. وكان أستاذنا الطود الراسخ هاشم ضيف الله يمنع السير داخل ميادين النجيلة.. ولكن حنتوب كانت كلها عشباً ندياً.. وعشب الطبيعة البري الأخضر الناعم كان الأغلب.
تنهال صوبي المهاتفات والرسائل الإلكترونية والنصية (الصوفت والهارد) كما يقولون بلغة اليوم.. ووصلتني رسالة من زميلي بحنتوب وجامعة برمنجهام د. عبدالرحمن محمد عبدالرحمن يقول فيها: "كنت أود لو ذكرت شيئاً عن فترة الشهر والنصف التي قضيناها في التدريب العسكري أثناء الإجازة (من ثالثة إلى رابعة) وذلك الطاقم العسكري والرجال الأشداء وكان يقودهم العميد (م) الكاتب والأديب عبد الرحمن حسن عبدالحفيظ).. ويتحدث صديقنا د. عبد الرحمن عن القيم والأخلاق التي غرسها فينا (الكديت) ويذكرنا زميلنا المهندس عدلان وحماسه الدافق للتدريب العسكري حتى ظننا جميعاً أنه سيتجه صوب المؤسسة العسكرية وليس كلية الهندسة.. كما يذكر الزبال وسرداب وعبد الرحمن عابدين ومنصور يوسف العجب.. وكنت ألتقى منصور كثيراً في تسفاري للندن ولكنه انقطع الآن.. للصديق عبدالرحمن تحياتي وسلامي وعرفاني وسنتواصل بإذن الله.
زارني صديقنا وزميل الدراسة المتوسطة مصطفى الماحي الخبير الاقتصادي والمصرفي ولكنني لم أحظ بمقابلته لعدم وجودي بالمنزل ساعة زيارته، له مني الشكر والعرفان وأعد بوصل حبل الوصل فقد تذكرني في ما تذكر وجاءني بمكرمة وفيض مشاعر.
اتساءل.. هل مستر براون البريطاني هو أول ناظر لحنتوب هو الذي أطلق الأسماء على داخليات حنتوب.. وهل يشارك براون إن كانت الإجابة بنعم في تخليد وتمجيد رموز أهل السودان مثل المك نمر وأبو عنجة والنجومي وغيرهم.. وسؤال آخر.. لماذا أطلقت أسماء الفصول على رموز الأوروبيين: شكسبير، أبوقراط وغيرهم والداخليات على الرموز الوطنية.
يتصل بي منذ بدأت هذه الذكريات الحنتوبية أستاذنا السلاوي من أمريكا وقد زعم وهو يحادثني مؤخراً أن الرواية الغالبة لمعنى اسم حنتوب.. أن شخصاً يدعى حنا.. كان ينصحه الآخرون بأن يتوب وقد سكن بتلك الناحية وأسسها.. ورواية أخرى ان الاسم هو اسم عشب بري كثير النمو بتلك الناحية.. والأستاذ الشلاوي الذي درس ثم درس بتشديد الدال بحنتوب ثم تولى منصب وكيل وزارة التربية والتعليم أكثر من اتصل بي حنيناً لحنتوب وقد أرسل لي رثاءً مؤثراً للريس عبده سائق عبارة المدرسة الذي رحل إلى ربه في الأشهر القليلة الماضية وبرحيله يغيب الثرى ركناً من أركان تلك المدرسة العتيدة وهاتفني شقيقه الإداري الراحل عابدين بدر ملتمساً أن أضيف في ذكرياتي عن حنتوب أن أربعة من نابهي طلاب حنتوب جلسوا للشهادة وتفوقوا من السنة الثالثة وهم حسن الترابي وإبراهيم منعم منصور وشقيقه عابدين بدر ورابع نسيت اسمه.. وعابدين بدر ارتاد سلك الحكومات المحلية وتذكره أجيالنا التي التحقت بالسلك الإداري بعد أن تقاعد جيل بدر بسنين عددا.
في أوائل الستينيات احتفل خريجو حنتوب من كل صوب وحدب بالعيد الفضي لحنتوب ولبى الدعوة مستر براون وامتلأت ردهات المدرسة بطلابها القدامى يتقدمهم الرئيس نميري في عهد زعامته على السودان وجاء محمد إبراهيم نقد من مخبئه الاختياري مشاركاً في الاحتفال وفاض الحنين القديم بالناس في ذلك اليوم الخالد.. ووقف الشاعر العبقري صلاح احمد إبراهيم يلقي قصيدة عصماء قال فيها:
"هدهد حط على كتفك يا حنتوب كالحلم نبيلاً
أنبت الشعر له تاجاً من العزة كالحلم جميلاً
ساحباً ذيلاً من الريش على مرج قوافيه طويلاً
وانطوى
ساهماً في النجمة القصوى يناجيها ويدني المستحيلا
بترانيم الجوى
ثم أصغى لمنادٍ في الدجى: حي على خير فلاح
فسرت فيه انتفاضة وطوى
ذلك الماضي حيال الطور من وادي طوى
إذ تجلى الشعب في نور الكفاح
نافخاً في خافق الشاعر ناراً ورياح وقوى".
ويتحدث في القصيدة عن صديقه شيبون وعن ثوريته ونضاله الوطني
"خالص في مذريات لم يدنس
جمرة من غضب الحق المقدس
فارساً منا ولكن كان في الميدان أفرس"
ثم يخاطب الرئيس نميري:
"يا رئيس الشعب أوليناك والشعب الثقة
قمت للثورة والثورة نار محرقة
إنما الثورة تدبير وفكر وإرادة
وهي إلهام وحشد وقيادة
تخلق الأمة لا الحكم وشورى لا سيادة
ومبادئ
شعبك الجائع يرجوك ومن حولك في الخرطوم يرجون استفادة
عقموا جهلاً وعادة
طردونا.. فصبرنا النيل للمجهول أبناء سبيل
ترقب البرج على بعد وموج النيل والشط الجميل
كشموس وجمت عند أصيل
نتعزى بأمانينا وبالشعر فنشدو ونطيل"
غريب ونبيل أمر وفاء صلاح لصديقه شيبون.. أهدى له ديوانه (نحن والردى) بكلمات باذخة:
"عرفته أول ما عرفته في ساحة العمل الثوري.. كنا آنذاك دون العشرين يحلم هو مثلما كنت احلم بيوم خلاص الشعب من المستعبد الأجنبي.. إليك أيها الذي قدم إلينا من كردفان ذات يوم بالحب الثوري العظيم والموهبة الواعدة ليتمدد مسجى بعرض الوطن وطوله".. وقبل صلاح لم نكن لنعرف شيئاً عن صديقه شيبون ولم يتح لأحد منا حتى اليوم الوقوف على شعره وإبداعه، هذا عن أمر صلاح الشاعر العبقري الذي تناوشته سهام رفاقه وسهام السياسة فهجر بلاده اضطراراً ورحل وحيداً غريباً.
استطالت مقالتي عن حنتوب.. وكان المؤمل أن اكتفى بمقال وأحد أعرف فيه أبناءنا وأجيالهم اللاحقة المدارس الثانوية في ذلك الزمان.. غير أن المقال الأول حرك أشجان خريجي حنتوب فأردفته بمقال ثان وثالث.. وكلما أزمعت التوقف والفكاك هاتفني أو صادفني صديق يضيف ويعلق ويستحسن.. وعبر الهاتف اتصل الأستاذ الصديق أبو عصاية يخبرني أنه يحتفظ بديباجة المدرسة ودبوس الهدهد وبصورة لمستر براون يقرع الجرس ثم صورة أخرى يتحدث في الاجتماع المدرسي الدوري.. ويتصل بي من يخبرني أنني لم اشمل خاله محمد موسى بالذكر وهو من رموز المدرسة والمدرسة التي بدأت مسيرتها عام 1946 ومضت في المسيرة حتى زمان التسعينيات خرجت جحافل من الطلاب.. ومن العسير أن تحيط بذكرهم وأخبارهم مثل هذه المقالات الصحفية.. غير أني أفرغت في مقالاتي كل ما توفر لي من معلومات ولا أقول ذكريات عن حنتوب.. واختم بهذا المقال بعد أمسية حنتوب الجميلة (أمسية للحنين والذكرى) التي نزمع إقامتها بمسرح كلية قاردن سيتي أمسية الثلاثاء القادم بإذن الله، والدعوة موجهة لخريجي حنتوب من كافة الأجيال للمشاركة.
إلى كافة أحبابي وزملائي في رحلة التعليم أزجي شكري وعرفاني.. الى كل من هاتفني وأرسل لي وقابلني شخصياً شكري وامتناني، لقد ضمخ روحي وعطرها بعبير الإخاء والوداد ما وجدت خلال مقالاتي هذه من قبول وارتياح وأخص بالذكر الذين كتبوا معي مؤازرين، اللواء الشيخ مصطفى والدكتور كامل إبراهيم حسن والعميد عيسى الحاج إبراهيم وأزجى تحياتي لمجموعات أبناء حنتوب مجموعة اللواء باب الله ومجموعة ناس اللواء شرف الدين علي مالك ومجموعة بلة احمد العبد وقبلهم جميعاً مجموعة أستاذنا أبو كشوة.
ولكم الوداد

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (7)


شهران كاملان وأنا اكتب بقلم الحنين ومداد الذكرى حكاياتنا بحنتوب الجميلة.. ولقد طوَّفت اسرتنا مع والدي المعلم فجاج السودان.. فجا فجاً، وتنقلت وإخوتي من مدرسة لأخرى.. ذهب والدي إلى رشاد في اقصى جبال النوبة الشرقية فبدأت دراستي هناك، وشاءت مشيئة الله ان اعود لتلك الديار محافظاً. وقد زرت حال وصولي مدرستي القديمة عند خصر الجبل، فجاش في جوانحي شلال النوستالجيا.. ثم جاش مرة أخرى وانا أقف بعد زهاء (40) عاماً امام منزل ابي القديم بكتم بشمال دارفور حيث أكملت المدرسة الأولية.. وبين رشاد وكتم وحنتوب وجامعة الخرطوم وداد وألفة وتشابه.. فالغمام في رشاد كان يدخل لمكتبي من النوافذ، ورزاز المطر ينهمر حالماً وخفيفاً لمدة أسبوع بلا انقطاع، فتأمل.. وكتم مدينة الضباب والجليد الثانية بعد لندن.. وجامعة الخرطوم هي (أم لبخ) كما يحلو لصديقنا د.صديق أمبدة تسميتها.. عتيقة الاخضرار سامقة الأفياء والشجر.
بعد هذه الرحلة الخضراء كانت بريطانيا.. حللت جامعة برمنجهام فألفيتها جنة الله في الأرض.. جامعة تحفها الينابيع والبحيرات والوزين والبط الداجن.. ثم جامعة لندن، وما ادراك ما لندن.. هكذا مضى بنا قطار الدراسة من جنة الى جنة.. غير ان لحنتوب طعما آخر وأثرا في النفوس بعيد.. اثر لا يبرح ولا يزول.. هذه الفجاج الجميلة: "كلها من نخلة واحدة ولكن العجوة غير البلح"..
كانت حنتوب العجوة وما سواها البلح.. كلنا من نخلة واحدة قالها زعيم المتصوفة عبد الغني النابلسي "انا في المذكور والغافل في الذكر)... ويسألونك: ما الذي شكل جوانحك فغدوت شاعراً؟..... وما دروا ان الشاطئ يلهم، والخضرة تلهم، والشجر يلهم... وللناس وكل خلق الله قبائل.. وقد توطنت قبيلة طير الهدهد حنتوب وأنحاء حنتوب مما حدا بمستر براون ان يجعل الهدهد رمزاً للمدرسة، فطبعت صورته في الديباجة القماشية التي كنا نضعها على جيب القميص الأبيض.. كما تم تصنيع دبوس برونزي عليه رأس الهدهد، اكثر ظني في لندن.. ولا يزال بعض زملاء ذلك الزمان يحتفظون بتلك الرموز الصغيرة الجميلة، ومنهم الأستاذ بلة العوض.. والهدهد طير انيق جميل ملون الريش، ارتبط بنبي الله سليمان، وقد توعده بعذاب الذبح عقاباً لغيابه دون اذن، ولما جاءه بنبأ سبأ اسقط عنه العذاب.. وفي الأثر يذكر المفسرون ان سليمان النبي توعد الهدهد بعذاب يفوق الذبح ولما تساءل الهدهد عن العذاب الذي يفوق الذبح.. قال سليمان النبي: "اجبرك على العيش وسط قوم يجهلون قدرك"، فتأمل بالله عليك الفرق بين العذاب الحسي والعذاب النفسي.
وكنت وقد حللت محافظاً على رشاد بجبال النوبة كثير الدهش والعجب عن القوة الخارقة لعروق الشجر.. فهي بجانب العلاج تفعل بعض الخوارق المذهلة الأخرى، ولم يكن الموضوع تلك المرة نقلاً عن مبالغ يجيد الدراما ولكن رأي عين.. وكان بروفيسور مصطفى محمد سليمان قد اقترح إقامة مؤتمر للعروق السودانية بـ(مايرنو) لتصنيف وتسجيل العروق المداوية والعروق الخارقة، مع الاستفادة من الخارقة بتوجيهها لكف الأذى الدولي عن السودان. وقد اخبرني احد ابناء تلك الديار أنهم عرفوا بالتجربة ان الهدهد يعرف العروق ويضع بعضها على الأبواب المغلقة فتنفتح له.
الشاعر الفذ محمد بشير عتيق احذق من يصف الرياض والشواطئ والأزاهر وهديل القماري.. ففي قصيدته (كنا تايهين في سمر) يقول:
ما بنسى ليلة كنا في شاطئ النهر
نتعاطى خمر الحب بكاسات الزهر
والبدر مزق ظلمتو وسفر ازدهر
في النيل سطع بي نوره واتفقّع بهر"
وفي قصيدته (قضينا ليلة ساهرة) يقول:
"الروضة لابسة حلة
من الزهور طرائف بيها المكان تحلّى
الجو نسيمو رايق والغيم نشر مظلة
وما أحلى ديك مناظر فيها البيان تجلّى"
وكأني بالشاعر عتيق يعني حنتوباً بكل هذا الوصف الجميل.. فهي وحدها التي استاثرت بأروع ما عند النيل الأزرق من ألق وظلال وعبير وندى.
كانت أيام حنتوب ونحن نرفل في ثياب الصبا.. ايام صفانا.. وعجبي بعتيق الشاعر:
"اذكري ايام صفانا واذكري عهد اللقا والليالي الفي حبور
القمر بضياهو آلق والنسيم يهدينا ارواح الزهور
الرياض مبتهجة ضاحك أقحوانا
والزهور فرحانة تستقبل اوانا
رائعة يانعة وزاهية في ثوب ارجوانا
النهر لينا اقترب والطيور تسجع طرب
عاملة مزّيكة قرب"
مجموعات عديدة من خريجي حنتوب تلتقي دورياً وتمضي بأواصر الزمالة قدماً في مدراج الحياة، وكنت احضر بصورة شهرية منتظمة اجتماعات دفعة اللواء شرف الدين علي مالك بنادي الزوارق، وهي دفعة تسبق دفعتنا بستة اعوام وفيهم مصطفى عبادي وفؤاد أحمد مكي عبده ويوسف عبدالملك وعاصم مغربي وإبراهيم الجمل.
وهنالك مجموعة اخرى على رأسها د.كرار بشير عبادي واللواء عبدالكريم باب الله وآدم تاج الدين وسامي علي عبدالرحيم، وقد اتصلت بي هذه المجموعة وجلست معهم بمكتب آدم تاج الدين، ابن بلدي وتربطنا به صلة قربى، وهكذا شأن ابناء المناقل كلهم اسرة واحدة.
وعلمت ان مجموعتهم كرمت الأساتذة بروف عبدالقادر حسن الضو والأستاذ عبدالباقي محمد والأستاذ توفيق أحمد سليمان وبروفيسور الأمين كعورة وبروفيسور محمد سعيد القدال ود.يوسف المغربي، وغيرهم.. وجلسات هذه المجموعة دورية يناقش فيها دوماً رد الجميل لأهل الجميل من الأساتذة الذين شهدتهم بحنتوب دفعتهم.
التقيت بأديس ابابا الأسبوع الماضي صديقنا السفير علي آدم الذي يعمل منذ ردح طويل بالأمم المتحدة، وهو من جلينا بحنتوب وطفق يذكرني من أحداث حنتوب وحكاياتنا الزاهية تلك ما قد نسيت، وذلك تحت رذاذ المطر.. وتذكرنا ذلك المطر البعيد الذي همى علينا في ذات يوم حنتوب ونحن انضر ما نكون وأينع ما نكون.. والتقيت عند عودتي للسودان بروفيسور مهدي بشرى، صديقي ودفعتي في حنتوب وجامعة الخرطوم، وتحدثنا عن كيف تكون امسية التقاء ابناء حنتوب.
هاتفني شمو شاع الدين مشيداً بمقالات حنتوب.. وهو من جيلنا.. وقد اعد لوحات تشكيلية يود ان يهديها لعمنا الصول محمد محمود عند تكريمه.
ادركت الشاعر الفذ محمد عبدالحي في السنة الثالثة بحنتوب وتبعته ليعلمني من ما علمه له الله من معرفة بالشعر وضروبه وخياله:
"أشرقي ريح الصبا بين الجبال
أشرقي بين الجبال
فحبيبي كالغزال
يتمشى في بساتين الخيال"
كان يفوقنا تحضراً فهو ابن حضر.. اهله في مدني.. خاله عميد كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم د.سعدالدين فوزي، وأخته سبقته لجامعة الخرطوم.. كان وسيماً انيقاً ودوداً يتحدث همساً:
"واستدارت اقمارها
وتجلت
في سناء من غيبها
الأشياء
وأضاءت بنوره
راضيات مشرقات
في قلبها الأسماء"
التقيت مؤخراً زوجته وأنجاله بمنتدى راشد دياب في ليلة ثقافية عن شعره وما ترك للناس من ادب.. ورأيت في ابنه عبدالحي الذي التقيت وصادقت وأحببت بحنتوب، فتأمل كيف مضت بنا الحياة على عجل!!.
"وضع السمندل تاجه وقميصه الناري يسطع في الغبار
ومشى خفيفاً واثقاً ملكاً على بلد النهار
مرحاً يدور مع الفصول ويستدير مع الثمار"
رحم الله محمد عبدالحي فقد كان عبقرياً..
توطنت قبيلة الهدهد بحنتوب.. وحطت قبيلة الفراشات الملونة رحالها بحنتوب.. فقد كانت حنتوب امبراطورية للفراشات والندى والأزاهر والأريج والجمال.. وفي هذا الرومانس البديع عكفنا اربعة اعوام مرت مر الغمام.. وانقضت عجلى.. كالبرق يومض وينقضي.. وإن نثرت هذه الأسطر عن حنتوب فإن فى نثرها لمتعة للنفس وإطلاقا لقيد الذكريات الجميلة.. ثم نزولا لرغبة اصدقاء وزملاء عمري.. ونعد العدة حاليا، بإذن الله وعونه، على اقامة امسية الحنين والذكرى عن حنتوب على مسرح كلية قاردن سيتي الأنيق، والدعوة ستوجه لجميع ابناء حنتوب.

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (6)

استأثرت داخليتنا ود النجومي بكأس سباق الضاحية.. فكان هناك كباشي.. ثم سلم الراية لباب الله.. وسباق الضاحية كان أصعب ضروب الرياضة وأبطاله يعرفون فنه.. فالمسافة طويلة للغاية وإن بدأت مسرعاً سرعان ما تفقد اللياقة وتتوقف. واستأثرت النجومي أيضاً بكأس كرة السلة فكان بيننا بازا والعقب ثم استلمت منهم الراية. وكان الشيخ مصطفى بجانب كرة القدم بطل السلة بلا منازع ينافسه بهاء الدين ود الحاج وأحمد ناصر وشخصي. وكان أحمد الصائم لا ينافس في كرة المضرب والتنس.. وكان من بين الكؤوس بالنجومي كأس تنسيق حديقة الداخلية الذي كان من نصيب عمنا الجعلي فضل السيد فراش الداخلية عليه الرحمة.. وقد التقيت قبل سنوات ابنه الدكتور بدر الدين ببرلين الشرقية حيث اصبح من كبار الاختصاصيين له مستشفى خاص ويدرس في جامعة برلين. وأذكر ان استاذنا العظيم الراحل هاشم ضيف الله قد قال لنا وهو يودع دفعتنا في حفل كبير (الذي يقابلني منكم في دروب الحياة.. يقول اسمه ويقول كان بلعب شنو) لم يقل لنا يقول كان في set one ولا set two فتأمل بالله عليك حب الرجل العظيم للرياضة.
لم تكن دفعتنا مميزة دون سواها. كل دفعة كان فيها الأفذاذ في المجال الأكاديمي والرياضي والثقافي..
جاءت من بعدنا دفع عمر محمود خالد ومحي الدين الفاتح ويعقوب عبدالماجد وغيرهم ومضت حنتوب تؤدي رسالتها بتفوق عظيم فقد تضافر على وضع الـ system أفذاذ التربية من خواجات وأولاد بلد ودرنا جميعاً في دولاب ذلك الـ system دون أدنى تعديل ولا تغيير. وقف هاشم ضيف الله بقامته الفارعة الرياضية يودعنا في حفل تخرجنا من حنتوب وأخبار نجاحنا في دخول جامعة الخرطوم تظلل سماء الحفل بالألق والرضا. وطفق يوزع الميداليات والكؤوس التي امتلأت بها منضدة كبيرة أمامه. ظفر يحيى الحاج ابراهيم بكأس التمثيل وقد امتهنه في حياته وجاءنا ونحن بلندن يحضر الماجستير في الدراما وظفرت وزميلي عوض الجيد محمد احمد بكؤوس الشعر والأدب وظفرت أيضاً بكأس كرة السلة. وظفر باب الله قسم الله بكأس الضاحية ومصطفى محمد سليمان (خبير وبروفيسور في المراعي) الآن بكأس الزوارق وفاز مصطفى أحمد المصطفى والرشيد النوراني وعز الدين جلال بكؤوس كرة القدم وعدلان الصديق بكأس التدريب العسكري والحاج الصديق طه بالإلقاء الانجليزي وعمر إمام بكأس الرئيس المثالي. وتوالت الكؤوس والميداليات مما يضيق المجال ويضيق ملف الذكرى بذكر كل من فاز في تلك الأمسية فليعذرني زملائي الذين لم أذكرهم في هذا المقال وليذكرني من يذكر لأشمل ذكره في المقال القادم.
أهداني استاذنا بروفيسور أحمد ابراهيم أبوسن كتابه الجديد (المؤانسة والامتاع) وهو كتاب شيق سلس حفل بالذكريات والشعر وروائع الأدب. وبروفيسور ابوسن سبق ان أصدر سفراً قيماً باسم (الإدارة في الاسلام) كان من أهم مراجعي وأنا أحاضر وأكتب في إطار استشارية عن الإدارة في المملكة السعودية بتمويل من وزارة الشؤون البلدية والقروية. وعن حنتوب التي كان البروفيسور أحد خريجيها بقول:
(وفي الطريق الى حنتوب دلفت الى دكان الترزي ويسمى (اليوسفان) بودمدني ويبدو انهما ترزيان بنفس الاسم ويعملان كشريكين واستلمت الزي المكون من قميص ورداء الكاكي ثم عبرنا النيل الأزرق ببنطون المدرسة وسائقه يسمى عبده وظهرت لنا حنتوب الجميلة في اخضرار وبهجة تزدان بأشجار التنضدب الخضراء وبالميادين الرياضية المعدة إعداداً جيداً ونزلت بداخلية عثمان دقنة مع زميلي وصديقي عز الدين علي مالك رحمه الله.. وقد أدهشني البروفيسور بذاكرته الفذة وهو يعدد أبناء دفعته ويذكر المجالات التي امتهنوها في مقبل أيامهم (أما زملاء دفعتي في الدراسة الذين التحقوا بحنتوب في عام 1950 و الذين انخرطوا في العمل الطبي د. حسن كاشف، د. عبد القادر ساتي، د. عبد المنعم كشان، د. محمد سعيد الريح والذين ذهبوا للجيش والشرطة اللواء شرطة اسماعيل عطية واللواء شرطة قرشي محمد فارس والفريق شرطة عبد الله حسن سالم والفريق عز الدين علي مالك واللواء نور الدين المبارك واللواء مبارك عثمان نصر والفريق يوسف أحمد يوسف). ويمضي بروفيسور أبوسن في ذكر أبناء دفعته جميعهم في مجالات عملهم دون ان تسقط ذاكرته أحداً.
واسأل كيف تم اختيار قرية حنتوب مكاناً لتلك المدرسة الأسطورية التي غذت السودان بالرجال في كافة المجالات.. وتصلني الإجابة من استأذي المؤلف الأديب الأريب الطيب علي عبد الرحمن وهو من طلاب ومعلمي حنتوب.. يقول لي نقلاً عن مولانا محمد أبوزيد ان الاتجاه الأول كان ان يتم تشييد المدرسة في المديرية الشمالية ثم تعدل الأمر لتذهب لمديرية النيل الأزرق وتم اقتراح سنار ثم الشكابة ثم المدينة عرب. وفي اجتماع ضم رهطاً من زعماء الأهالي بودمدني ترأسه المستر بريدن مدير مديرية النيل الأزرق ضم الشيخ أبوزيد وصالح بحيري اقترح شيخ أبوزيد قرية حنتوب مكاناً للمدرسة ووجد الاقتراح قبولاً من مدير المديرية والحاكم العام وفي المسوحات الميدانية للأرض المجاورة للقرية وجد المستر بريدن ان جل الحيازات مملوكة للشيخ أبوزيد والسيد الكارب فتنازل الإثنان عن أراضيهما لوجه الله والتعليم، والمستر براون هو الذي قرر ان يكون رمز المدرسة الهدهد لكثرة الهداهد في تلك الأنحاء. فتأمل بالله عليك أريحية وبعد نظر الشيخ أبوزيد والكارب أما حق لأهل السودان الاحتفاء بذكرى هذين المحسنين وقد قل وتلاشى في هذا الزمان الإحسان. عطر الله ثرى كل من تنازل عن ماله طائعاً في سبيل المعرفة شيخ أبوزيد، الكارب، عبد المنعم محمد، البغدادي، وقبلهم السيد عبد الرحمن، ونذكر أيضاً السلمابي والضو حجوج وجابر أبو العز وبابكر ود الجبل ومن الذين وهبوا أرضهم على سعتها من أجل إزدهار الرياضة شاخور وكيشو والطيب عبد الله وغيرهم. غير ان الإحسان كاد ان يتلاشى في هذا الزمان.
اتصل بي من المانيا الصديق حسين عثمان البطري يشيد بمقالات حنتوب ويضيف وحسين من أبدع عازفي الكمان في البلاد.. ولا أنسى دخوله علينا في لندن ونحن نقيم حفلاً لصديقه د. رمضان. دخل علينا بكمانه والجليد يكسو مصطفى لوناً أبيض ليشجينا بعزفه البديع. اليه والى محجوب بطري أول من اتصل بي مهنئاً بمنصبي الجديد تحياتي وودادي وعرفاني.
وقف هاشم ضيف الله في صبيحة يوم من أيام عام 1963م في اجتماع المدرسة يخبرنا بقراره ان يذهب جميع طلاب المدرسة لقرى الجزيرة والمناقل للمشاركة في جني القطن فسرت منا همهمة ونحن جلوس على النجيلة بما يعني الامتعاض فاستشاط غضباً وخاطبنا (هل تمانعون. هل أتينا بكم هنا لتأكلوا وتنعموا.. ألا تعرفون الوطنية؟) فتوجهنا ونحن في خجل الى البنطون لتقلنا العربات في الشاطئ الآخر الى الحواشات. كنا والحق يقال في حنتوب في بهجة وفي نعيم لا نريد له فراقاً.. كانت الوطنية عند هاشم ضيف الله تعني انكباب الطلاب على الانضباط والتحصيل والرياضة دون الانشغال بالسياسة في المرحلة الطلابية وبعد التخرج لهم ان يفعلوا ما يريدون. كان يريد مدرسة خالية من المظاهرات والاضراب والاعتصام. وكنا في العمر الثوري نتابع كل ما يجري في البلاد من أحداث ونتفاعل مع قضايا الوطن وبدأ يتشكل ويتنامى في دواخلنا الوعي السياسي.
كان محمد عبد الحي الشاعر العبقري الفذ أكثر النجوم سموقاً في سمائنا في ذلك الزمان ويقيني انه ظل يتوهج ويبرق حتى بعد رحيله المأساوي المريع وهو دون الخمسين. وقد تمددت وترامت حنتوب باخضرارها وأزهارها وطيورها الغناء في تكوينه الشعري بصورة لا تخطئها العين. أنظر فقط الى أسماء قصائده.
الإنسان وطيور البحر، الطير الخداري، شجرة عباد الشمس، رحيل الطاؤوس، السمندل ملك النهار، الفراشة ملكة الليل، النخلة، حديقة النخيل، الحمامة الخضراء، الحديقة، زهرة الشمس، قصيدة المطر، وغيرها وغيرها.. ملك وطوع عبد الحي لغة الشعر. ومضى في مفازة العمق كأقصى ما يكون حتى يخيل اليك ان أمام ذلك المكان الذي وقف فيه لا يوجد موطئ قدم لواقف جديد:
هم ما رأوا غير السقوط
هنا سقوط أو هناك
وفي غد حتماً يكون
وما رأيت سوى توهج حمرة التفاحة الأولى
وقد رجعت الى بيت الغصون المزهرة
صوت تجوهر في حوافي الغيب
صمت عامر كالشمس مصباح توهج
في دم اللغة القديمة مبهماً كالحلم
ماء مترع
في علبة البلور محتبس
وروح من لهيب أزرق
قد أسرجتها الشمس
في كهف الدماء
غلب الحنين بها ففاضت
واستحرت بكرة نشوى الفطام
وتحرق الجسد المعرى من كساء ربيعه
لكن هذا ليس وقتاً للبكاء
هي لمحة عبرت وقد رجع الملاك بها الى شمس الغناء
غربت منذ زمان بعيد شمس تلك المدارس المدهشة وتبدل سلم التعليم ومنهجه وانفض السمار من طلاب ومعلمين وعمال.. أدت تلك المدارس رسالتها كأفضل ما يكون وتخرج فيها بناة السودان الحديث في كافة المجالات، ثم أفل نجمها. ما عيب السلم القديم والمنهج الذي رافقه؟ سؤال بلا إجابة. هل شارك في تغيير سلم د. محي الدين صابر تربويون ومعلمون ومخططون خرجهم السلم القديم أم أن القرار كان سياسياً؟ وإن كان سياسياً من زين للنميري السلم الجديد وهو من خريجي القديم ورأى بعينيه في حنتوب النجاح الذي رافق السلم القديم؟.
السلم القديم أيها الناس علمنا خارج المقر الدراسي الشعر والكتابة والمسرح والموسيقى والخطابة ووسع مداركنا مبكراً فحفظنا الثقافة العربية والأجنبية واستوى عودنا كانضر ما يكون واتسعت آفاقنا واحطنا يافعين بأخبار العالم وما يدور في الدنيا من أحداث. هل مكَّن المنهج الجديد أولادنا من ذلك؟.

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (5)


المقالات التى أوالي كتاباتها عن حنتوب الجميلة ازاحت الغبار عن ذكريات كامنة فى نفوس الكثيرين من ابناء حنتوب.. انشغل الناس بالحياة فى مدها وجذرها وظلت الذكرى فى الدواخل مثل جمر يتقد لبرهة ثم يخبو، وعن شعور مشابه لهذه قال الشاعر الفذ صديق مدثر:
(ومضة عشت على إشراقها
وانقضت عجلى وما أصغت إليّا)
وعبر عن معنى مقارب لهذا صديقنا الشاعر المقتدر الراحل حسن الزبير:
(غايتو وآحسرة زماني
عشت دون الناس أعاني
وما لقيت غير الاماني
جمري يهدأ يهبوا تاني
وألقى وين يا ناس اماني)
اتصل بي عشرات الاصدقاء من أبناء زماننا بحنتوب والزمان البعيد والزمان الذي بعدنا.. وكلما قلت هذا هو المقال الأخير جد مني العزم مرة أخرى نزولاً لرغبة ابناء حنتوب فأكتب.. وأكتب.. فتأمل بالله عليك كيف يفعل تحريك الذكرى فى جوانح الناس، وما حنتوب إلا فترة سعادة نثرها الله فى اعمارنا الغضة وحبانا بها فظلت عطر عمرنا وعبيره الاخاذ والشكر من قبل ومن بعد لله الذي ساق خطانا الى تلك الخميلة المورقة الغناء.
كانت لصديقنا يحيى الحاج ابراهيم ملكة باهرة فى الدراما وقد امتهن فى مقبل أيامه الدراما وتخصص فيها، وهو الآن ومنذ ردح طويل من الزمان يعمل مديرا للدراما بدولة الشارقة... وقد جاء هو وهاشم صديق وعثمان البدوي فى زماننا بلندن واكملوا الدراسات العليا فى الدراما وقد اتصل بي شقيقه عيسى الحاج ابراهيم يقول لي هل نسيت من اولاد حنتوب صديقك يحيى... وبالطبع لا أنسى يحيى ولا ينسى يحيى احد من ابناء جيلنا، وقد جلسنا لامتحان الشهادة الثانوية وأذكر امتحان الهندسة وكانت المسألة الاولى تعادل فى درجاتها قرابة نصف الامتحان والامتحان بالطبع باللغة الانجليزية وكتبوا لنا أن نستعمل الـcompass لحل المسألة وكنا لا نعرف ان كان الكومباس المنقلة او البرجل فأسقط فى يدنا... كان يحيى يجلس امامي ففكر بذكائه المتقد فى اخراجنا من هذا الموقف الخطير... فأخذ المسطرة والاستيكة والمنقلة والبرجل ووضعها على عتبة الشباك القريب منه... ونده للمراقب وكان من خواجات خو رطقت بريئا ومسكينا وعندما جاء اليه قال له:
Sir can you please give me this compass فناوله له وعرفنا ان الـcompass هو البرجل فتنفسنا الصعداء وحلينا المسألة فتأمل بالله ذكاء يحيى وسرعته فى التفكير... كان يحيى يدخل الدراما فى كل شئ فيبهرنا ويدهشنا ويضحكنا غير ان الدراما لم تسعفه فى مباراة الالقاء الانجليزي فقد كان ينطق الانجليزية بطريقة تمثيلية يعوج ويلولو فمه فتخرج الكلمات غريبة... نفوز عليه ويأتي فى المرتبة الاخيرة.. فالحكام كانوا إنجليزا لا يفهمون سببا لحركات يحيى وهو يلقي موضوعه. الى يحيى تحياتي وأشواقي أينما كان.
كان الزمن فى حنتوب يطبق على كل شئ ويشكل كل شئ... كل شئ بتوقيت... الحصص... الطعام... الرياضة... المذاكرة... النوم... حمام الصباح... التوجه من الداخليات صوب المدرسة... لا شئ فى حنتوب للصدفة... وضع مستر براون النظام الذي يسود فى امبراوطوريته حنتوب كما كان يسميها وعلى الجميع الدوران فـى الـsystem دون ابداء رأي كان للحياة طعم بديع فى كل مناحيها.. كان للدراسة طعم وللرياضة طعم وللأنس طعم ولكباية الشاي فى القهوة التى خلف داخلية النجومي وفى النادي المجاور لمتحف روشستر طعم وللاخاء والالفة والصداقة وللفول فى الفطور والعشاء كلها لها مذاق عالق بنا حتى اليوم، كان لطاطم مطعم ود المقلي طعم عجيب.. وكان وكان وكان... وهل تحيط ذكرياتي بخضم حنتوب الجميلة... هيهات. وضمن الامسيات الفنية وكنت ضمن المشرفين عليها ارسلوني لود مدني لدعوة مغنين لإحياء احدى الامسيات فسمعت ان مغنيا جديدا من طلاب المعهد العلمي بدأ فى التألق وهناك شاب صغير يغني بالهندية فأتيت بهما فكانا محمد الامين وابوعركي.. غنى لنا محمد الامين (مسيحية) و(يا معاين من الشباك) و(طائشة الضفائر) فكان بها اول فنان عربي يتغنى بأشعار نزار قباني.. اما ابوعركي فقد غنى لنا اغنيات هندية كان يدخل السينما ويحفظها عن ظهر قلب فتأمل!! ولعل التاريخ يسجل لى أنني اول من أتاح لمحمد الأمين فرصة الغناء للصفوة.
نبهني ابن اخ النقابي الشهير شاكر مرسال ان شاكرا ايضا من ابناء حنتوب.. وان فاتني ذكره ضمن اهل السياسة والنضال الوطني فقد كان ذلك سهوا... وشاكر مرسال من رعيل حنتوب الاول وربما يكون ضمن الدفعة التى افتتحت بها المدرسة وهو معروف ومشهور ومشهود له بالنضال. وبالطبع لا يمكن لي كما ذكرت ان أحصي وأحيط ببحر حنتوب المتلاطم الذي ظل يدفع لشاطئه كل عام بمئات الخريجين... كلهم والحق يقال اسهموا في نهضة الوطن وإعماره كل فى مجاله.
جاءني عبر الهاتف صوت يتدفق حنينا ورقة وتكاد تأخذ به العبرات... اوضحت لي صاحبة الصوت فى لهجة اقرب الى المصرية انها أرملة الراحل عبدالمنعم فهمي الذي عينه مستر براون ضابطا للمدرسة وكنا نسمي ضابط المدرسة (البيرسر)، قالت لى ان مقالاتي ابكتها وفتحت فى جوانحها نافورة من الذكريات المتداعية واعادتها الى اول يوم تدخل فيه حنتوب وهي حديثة الزواج فى عمر السادسة عشر وهي الآن تخطت السبعين وطفقت تحدثني عن زمانهم بحنتوب المترع بالدعة والسعادة والعبير وألتمست ان توجه لها الدعوة فى ليلة تكريم الصول محمد محمود... وادهشني كثيرا اتصال من اختنا عيشة حرم صديقنا رجل الاعمال عمر ابو القاسم صاحب كلية قاردن سيتي ذكرت انها تتابع بشغف ودموع مقالاتي عن حنتوب وهي بحكم السن لم تكن قد ولدت فى الزمان الذي نتحدث عنه وتقول انها لا تصدق ان المدارس الثانوية بالسودان كانت على النحو الذي نصفه نعم يا اختنا العزيزة كانت كما وصفنا ثم داست عليها عجلات الزمان وكادت ان تندثر لولا ان تداركتها مؤخرا يد الترميم والصيانة ولكنها تحولت من ثانويات الى كليات جامعية.
مررت ومعي صغاري بحنتوب فى اوائل الثمانيات وعرجت عليها وألفيتها لا تزال مدرسة ثانوية ولكنها تدهورت ودخلت داخلية النجومي داخليتي القديمة وجلست فى ذات مكاني القديم ولكن(السراير) تحولت الى (عناقريب) والحمامات تداعت والشجر الظليل فى وسطها اختفى.
وأنا اجلس بمكان سريري فى داخليتي القديمة بعد ردح طويل من الزمان تذكرت ابيات الشاعر العظيم محمد سعيد العباسي:
(ولقد سعيت لها فكنت كأنما... أسعى لطيبة او الى ام القرى
وبقيت مأخوذا وقيد ناظري.... هذا الجمال تلفتا وتحيرا
فارقتها والشعر فى لون الدجى... واليوم عدت به صباحا مسفرا
ووقفت فيها يومذاك بمعهد... كم من يد عندي له لن تكفرا
دار درجت على ثراها يافعا... ولبست من برد الشباب الانضرا
وصحابة بكروا الى وكلهم... خطب الملأ بالمكرمات مبكرا
يا من وجدت بحبهم ما اشتهي... هل من شباب لي يباع فيشترى
ولو أنهم ملكوا لما بخلوا به... ولا رجعوني والزمان القهقهري)
هل كان العباسي فى يومه ذاك يتحدث بلساننا؟ ما أروعه من شاعر... أليس هو القائل ايضا:
(ولامني فيك والاشجان زائدة... قوم وأحرى بهم ان لا يلوموني
أزمان أمرح فى برد الشباب على... مسارح اللهو بين الخرد العين
والعود أخضر والايام مشرقة... وحالة الانس تغري بي وتغريني
ما أنس لا انسى اذ جاءت تعاتبني... فتانة اللحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والايام مقبلة... ماذا تريدين من موئد خمسين)
اتصل بي ايضا اللواء عبدالكريم باب الله يثني على المقالات وهو من ابناء حنتوب ويقول لي ان انسب مكان لتكريم الصول محمد محمود نادي ضباط القوات المسلحة برعاية القيادة العامة فالرجل جندي بحكم المهنة وله عشرات التلاميذ من من هم فى رتبة اللواء وارفع منها فرحبت بالفكرة وما دام الامر سيتم بحضور كافة ابناء حنتوب وصلتني ايضا مهاتفة كريمة من ابننا نجل العم الراحل الريس عبده الذي رحل عن الدنيا الشهر الماضي يشكرني عن الاشادة بوالده ورأيت ان نوسع التكريم ليشمل ايضا اسرة الريس عبده كتب لي ايضا بروفيسور عبدالله عوض عبدالله وبروفيسور عبدالله حمور يتحدثان عن ذكريات حنتوب وايام حنتوب فلهما تحياتي... وقد انهمرت علي مكالمات الصحاب والاصدقاء انهمار الخريف على مدينة الخرطوم فباغت شوارعها وافزعها فقد تعودت على المطرتين كل خريف.
كان مستر براون في ادارة مملكة حنتوب حكيماً ودوداً جميل السجايا.. ويحكون انه وجد سريراً مفرشاً في فناء احدى الداخليات فنام فيه حتى أتى الطالب صاحب السرير ونزع عنه الغطاء بعنف دون أن يدري ان النائم على سريره هو الناظر فاستقيظ واعتذر وذهب صوب منزله. وحدثني اللواء شرف الدين علي مالك أنهم وجدوا حشرة في صحن الفول أظنها ابو الجعران فحملوا إليه الصحن وقد أضمروا ان يجعلوا من الحبة قبة ربما تصل الى الاضراب فقال لهم (Show Me) ومسك بالجعران (وقرشه) وابتلعه وقال لهم بابتسامة:
(Good meat, well cooked.. go back to your meal) فتأمل كيف كان هذا الخواجة يطفئ المشاكل المحتملة.
اتصلت بي الاستاذة كريمة عمنا الصول محمد محمود وتعمل مديرة لمدرسة بنات حنتوب تشكرني على فكرة تكريم والدها كما اتصل شقيقها وسعدت جداً ان فعلت مقالاتي كل هذا الحراك. كما اتصل بنا استاذنا الجليل الطيب السلاوي من امريكا يشيد بالمقالات وهو من خريجي حنتوب وعاد اليها استاذاً ثم اصبح وكيلاً لوزارة التربية والتعليم وارسل لنا مقالاً بعنوان (صورة وذكرى.. الكابتن عبده محمد نور في رحاب الله) يرثي فيه في عبارات مؤثرة الريس عبده سائق رفاس مدرسة حنتوب.. الا ان المقال الذي ارسل بالفاكس فيه أجزاء غير واضحة.. لأستاذنا السلاوي التحايا والاحترام عبر المسافات الطويلة، ولأهمية المقال أرجو ان يرسله لي على بريدي الالكتروني لنقوم بنشره ان شاء الله.
كنت ألعب حارسا للمرمى بحنتوب بالفريق الأول وكنت حين يقف اللواء الشيخ مصطفى ويوسف عبدالملك باكات امامي لا اخشى حتى مارادونا نفسه فقد كانا فى الدفاع الضاري عن وصول الكرة للمرمى اقرب لأمين زكي وود الديم وعبدالله عباس... وقد تسلم الشيخ رأيه كابتن كرة السلة من بهاء الدين ود الحجاج او احمد ناصر لا أذكر واستلمتها منه حين تخرجه وبهاء الدين هو ابن ناظرنا حسن احمد الحاج الذي سبق هاشم ضيف الله وقد لقبه الطلاب الحجاج لشدته معهم. وقد كان فريق القدم بحنتوب لا يشق له غبار وكنت وما زلت أعتز بانني فى حراسة المرمي صددت ضربة جزاء لعمر النور واخرى لجلك وكانا من اساطين الكرة بالسودان.. اين الرشيد النوراني... اين طه... اين عبدالملك... اين عز الدين جلال... اين احمد فضل السيد... اين مصطفى احمد مصطفى... كيف بالله تشتتنا بعد ان ضمنا ذاك الزمان.
شريط الذكريات لم يكمل وسأمضي باذن الله فى ذكرياتي عن حنتوب الجميلة، ربما تخللتها مقالات عن احتفال الاثيوبيين بالألفية الثالثة.
مع عرفاني للذين هاتفوا والذين كتبوا...

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (4)

ظفرت مقالات حنتوب باهتمام كبير وقبول مدهش من أبناء حنتوب بمختلف اجيالهم فقد اتصل بي العشرات يضيفون ويصححون في معلوماتي وقد اجمع كلهم على استعدادهم للمساهمة والمشاركة في مقترح تكريم صول المدرسة المهيب عمنا محمد محمود اطال الله في عمره ومتعه بموفور الصحة والعافية.. وكنت قد ضمنت مقالي السابق رقم هاتفي الا ان الاخوة في غرفة طباعة الصحيفة اضافوا للرقم (التسعة) فامطر القوم صاحب الرقم بوابل من المكالمات فطفق يصحح كل من يتصل به بان الرقم المراد ليس به (تسعة) فله العذر. ومن بين الذين اتصلوا بي شباب تخرجوا في زمان الثمانينيات يختزنون اجمل وأروع الصور عن المدرسة الجميلة الخضراء وما درى هؤلاء ان الذي وجدوا هو ما تبقى من تلك المدرسة.. فقد زرتها في تلك الحقبة ووجدت ان التصحر بدأ يفترسها شيئاً فشيئاً حتى أمسك تماماً بتلابيبها في السنوات التي تلت وقد انهارت البنية التحتية خاصة انابيب المياه التحتية والمضخات التي كانت تغذيها بالمياه من النهر لتسقي الميادين وحدائق المنازل والمدرسة وهذا ما يجعل حنتوب دائمة الاخضرار وهذا بالطبع لا يعني ان الطبيعة لا تضيف فحنتوب هي النيل والشاطئ والمياه الجارية والاشجار الظليلة والعشب الخريفي والعصافير المغردة.. لذا اكتفت الاجيال اللاحقة بهذا دون ان تدري ان المدرسة كلها كانت جناناً ورياضاً خلابة.. ولكن زماننا كان غير زمان اجيال ابنائنا وزمان الاجيال التي سبقتنا كان غير زماننا.. وكل حقبة تنطوي تطوي معها شيئاً من الدعة والهناء ولعل اروع من صور هذا هو الشاعر الفذ صلاح احمد ابراهيم:
"رغم طول البين ثابرت أسائل
في صباح ومساء
اين أين السمح ريان المناهل
حسرتا.. كيف تشتتنا هباء
زارني منك رسول هزني
فتذكرت عشيات اللقاء
والبشاشات التي انساقت لنا
ضحكاً حلواً وانساً وصفاء
ووجوها ينعت والتمعت
بالسنى يا للصحاب السعداء
فاذا النيل نسيم وامق
لاثم خد مليح في حياء
واذا النجم رنا ثم دنا
كاد لولا يتدلى من سماء
واذا الليل نخيل راقص
وضياء شع في الشط المقابل
وشباب فرح مصطخب
حلقات في غناء وشواء
بين شاد ومجادل
او مناد لصديق او محي في طريق
بهجة ليس لها قط انتهاء
كان ذلك
في زمان اريحي متفائل"
دفعت حنتوب بجانب الاربعة الذين اضحوا رؤساء للقضاء والاربعة الذيبن اضحوا مديرين لجامعة الخرطوم باربعة آخرين تقلدوا منصب وزير العدل:
الدكتور حسن الترابي
الدكتور عبد السميع عمر
الاستاذ عبد المحمود صالح
الاستاذ عبد العزيز شدو
من الناشطين في المجال السياسي في زماننا بحنتوب وقد فات عليّ ذكرهم في المقالات السابقة عثمان جعفر النصيري الذي كان من العناصر الشيوعية النشطة ومعه بشير زمبة وعمر الخليل وقد التقيت عمر الخليل مؤخراً وعليه سمات الروقة ودعة الحال فبادرته ( تدخلونا في اليسار وتبقوا مليارديرات؟) فاجاب (نحن ما قلنا ليكم اقعدوا في اليسار للأبد) هكذا نتبادل القفشات حين نلتقي وقد كبرنا وتزوج عيالنا وانجبوا لنا احفاداً وحفيدات.. واخذنا من الحياة نصيبنا كل بمقدار ما وهبه الله من مال وجاه ومنصب وفرص فالحمد من قبلُ ومن بعدُ لله مسير الكون ورازق الطير والانام وكل ما يدب على وجه البسيطة. في زمان السبعينيات استقر بي الحال واسرتي الصغيرة بلندن.. وجدت لي عملاً بالصحافة بشارع (فليت) وكنت قد اتممت دراساتي العليا بجامعة لندن ووجدت زوجتي عملاً هي الاخرى وقلت لها.. هذا موطننا الجديد.. وعملت جاهداً ان اتطبع بطباع القوم هناك.. ان لا تتحدث كثيراً.. ان لا تهتم باحد.. ان تعمل حتى الخامسة ثم تدفن وجهك في صحيفتك وانت تعود بالقطار من العمل الى منزلك.. ان تتلاءم مع العزلة والبرد القارس والصقيع والجليد والمطر والضباب... فكرت وفكرت ورأيت ان السودان بكل ما فيه افضل بلاد الله لنا.. فأعلنت العودة.. وكان آخر حفل عشاء لنا بمنزل الاخ الصديق عثمان جعفر النصيري وزوجته الفضلى سلمى بابكر لهما عرفاني واشواقي وتحياتي وقد استوطنا تلك الديار البعيدة.. فالت القاصة السودانية الشهيرة المقيمة بلندن ليلى ابو العلاء:
Lonlyness is the malaria of Britain
الوحدة هي ملاريا بريطانيا
ونعود لحنتوب ونقرأ للشاعر اللطيف شمس الدين حسن خليفة يعدد كل معلم من معالمها ولا يغادر معلماً:
"والسفرة انتظمت وسرنا نحوها متتابعين بغير ما الزام
هيا بنا نبدأ يصيح (براون) فبدأت في التو التهام طعامي
(والصول) قد قاد الكديت بفتية بعد الغداء تدربوا بنظام
ومحاسن الكشافة انضمت لنا في كل منضبط وكل همام
صور تسابق في الخيال تهزني فاعيش في شوق يزيد ضرامي
احبب بايام الصبا وجمالها مرحاً قضيناها وخيرا هامي
ايام كانت للحياة حلاوة (الروض المطير) ورقة الانسام
انا رضعنا عهد حنتوب هوى وقلوبنا ظلت بغير فطام
حنتوب كانت عالماً متفرداً لمثابرين ونابهين عظام"
وعلى ذكر الشعر فاتني ان اذكر الشاعر الصديق الامين بلة المهاجر منذ زمان بعيد باحدى دول البترول وقد التقيته في مطار البحرين وتذكرنا حنتوب وقرأ لي قصيدة كتبها في حنتوب لا اظن ان هنالك من الشعراء من تفوق عليها.. صدحت مكرفونات المطار وتوجه كل منا الى طائرته.. لا ادري اين الامين الآن وكيف اظفر بتلك القصيدة العصماء.. ارجو إن قرأ مقالي هذا أن يرسلها على بريدي الالكتروني فربما كتبنا حلقة اخرى عن حنتوب...
من اشهر انماط الرياضة في حنتوب سباق الضاحية وهو سياق طويل حول المدرسة له رايات ومراقبون يقفون عندها ويبدؤه جميع الطلاب بقيادة الناظر هاشم ضيف الله ويبدأ القوم في التساقط والاعياء زرافات ووحدانا والذي يفتر يذهب الى مساطب ميدان كرة القدم الكبير في انتظار دخول الطالب الاول.. وكان الاول في زماننا كباشي وبعد تخرجه استلم الراية باب الله وقيل لنا ان صديقنا حسين الطاهر عبد الحفيظ في الدفعات السابقة لنا كان هو الاول كما قيل لنا ان في العبقريات الخارقة في الذكاء الاكاديمي كان محجوب عبيد وانور الهادي وفي زماننا كان العبقري سعد عدنان.. دخل معنا باب الله كلية اقتصاد جامعة الخرطوم ولكنه عزف فجاة عن الجامعة بكل مافيها من ترف ودعة عيش وفضل عليها الذهاب والبقاء لايام طويلة بقريتهم القريبة جداً من الخرطوم وهي الباقير ينعم هناك برفقة اصدقائه ويلعب الكوتشينة وقل ان يطل علينا في الجامعة ولكنه امتلك كتاب قانون الجامعة واصبح فيه مرجعاً يعرف الحد الادنى من المحاضرات والسمنارات التي ينبغي دخولها لتتفادى الفصل. ذهبنا له كاصدقاء اجاويد نقنعه بالعودة للجامعة فقال لنا ومعي مصطفى جمال الدين: انه دائماً ينوي الرجوع بعد نهاية الاسبوع ولكنه يأكل السبت وعندما يطل فجر الاحد يبين له ان الخميس على الابواب فلا من داعٍ للذهاب وهكذا تطول به المدة ظل باب الله يسقط ويملحق وينجح ويسقط ويعيد وينجح حتى فصل من الجامعة ولكنه عاد اليها بعد عشرة اعوام من تخرجنا فاكملها.
من الاساتذة الاجلاء في عهدنا بحنتوب عهد الستينيات محمد سعيد القدال وابراهيم الزين صغيرون وحمد النيل الفاضل ومحمد الشيخ مدني وهؤلاء باستثناء محمد الشيخ جميعاً من ابناء حنتوب ثم بعد التخرج ودخول الجامعة لحق بنا هؤلاء الافذاذ وقد اكملوا الدكتوراه وواصلوا تدريسهم لنا بجامعة الخرطوم هكذا كان طموح الناس في ذاك الزمان.. ولقد تأثرت في كتاباتي بأستاذي المثقف الذكي د. محمد سعيد القدال الذي اضحى مؤرخاً لتاريخ بلادنا خاصة تاريخ المهدية وبفنه العميق في كتابة المقالات.
أما استاذنا الراحل الهادي آدم فقد حببنا في الأدب والشعر فاصبنا في الشعر وصناعته بعض شهرة، تلك ايها القاري الكريم كانت ايام.. هل نشكو هذا الزمان لزماننا ذاك:
"بشكي ليك أنا يا زمنا
من زمن شال المحنة
لا وتر من تاني رنا
لا بلوم في فرعو غنا
والحنان يا حليلو روح
ما في زولاً تاني حنا
جفت الزهرة النضيرة
والغصون انفض طيرة
الحبايب ولوا فاتوا
والاماسي كمل عبيرة
الكليمات الحنينة
مالة راحت وراح رنينة
والحبيب الكان يزورنا
نلتقيهو ويلتقينا
ضن بي فرص التلاقي
لا بيسأل لا يجبنا"
كامل عبد الماجد
ما الذي بالله اطفأ في الناس البريق اين امثال صلاح احمد ابراهيم ومحمد عبد الحي وصديق منزول ومحمد وردي في الاجيال التي اتت من بعدنا بل اين مثل خامات التربية السامقة امثال عبد الرحمن على طه ونصر الحاج علي وهاشم ضيف الله وعبد الباقي محمد، ما الذي اطفأ في الناس البريق.. غير ان الفداء ان الرياح الجديدة اقتلعت القامات في كل بقاع الدنيا وخلطت الحابل بالنابل.. هبطت لندن العام الماضي وقد فارقتها قبل ردح طويل من الزمان بعد اقامة امتدت لعشرة اعوام.. فرأيت لندن اخرى غير التي عرفت.. فقد تكاثر فيها القوم من كل فج عميق فكنت والله اقرب ما اكون لاهل الكهف.. تغير كل شيء وتبدل كل شيء.. ونسيت كل شيء تقودني ابنتي من يدي وتدخلني من مكان الى آخر وكأن الاشياء كلها جديدة علي.. انكرتني لندن "وانا ابن سرحتها الذي غني لها"
"لقيتنا في فتور مثلما تلقى الجديد
وهي كانت ان رأتنا
يضحك النور الينا من بعيد"
انطوى في بريطانيا زمان مسز تاتشر وبيتر أوتول وجون لينون وكيقان وغيرهم من القامات السامقة.
لا يحس بطعم ما اكتب الا اولاد حنتوب ولا يتنسم عطر ما أروي الا ابناء حنتوب.. الكبار منهم والصغار فحنتوب والوادي وطقت من حسنات الانجليز التي يُشكرون عليها مثلما يشكرون على الخدمة المدنية التي تركوا والخزان والمشروع والسكة حديد والبوستة والنقل الميكانيكي والمخازن والمهمات والنقل النهري وجامعة الخرطوم وكباري العاصمة ومباني الحكومة في كل مكان والتلفونات وغيرها.. ثبتوا لهم الفضل في هذه الانجازات ولا يمنعكم شنآن قوم ان تثبتوا فضلهم وتعدلوا.
وافق صديقنا الاستاذ الكريم صلاح محمد عثمان يس ان يستضيف تكريمنا للصول محمد محمود رمز حنتوب الوحيد المتبقي في النادي العائلي الذي يرأسه ووافق صديقنا الاستاذ محمد عوض الكنزي ان يتكفل بالمرطبات والخدمة في تلك الليلة اما الهدية المالية التي سنقدمها له فقد وافق المئات من ابناء حنتوب عبر الهاتف على المساهمة فيها وهذه كلها (Gesture of gratitude) لمسة وفاء ورد جميل.. يتسلم ويسجل التي ستعلن في حفل التكريم المساهمات الاستاذ محمد عوض الكنزي مدير صالة وفندق المعلم جنوب التربية والتعليم تلفون 0922211540 وتلفون 0123094485 وسوف ننشر تاريخ ليلة التكريم.
مع عرفاني وتقديري
لا ادري لماذا نسيت وانا اعدد زملائي واصدقائي ابناء جيلي أو ان اذكر الاستاذ محمد احمد سالم مسجل الاحزاب السياسية والفريق الركن محمد عبد الله عويضة وقد كانا من اقرب الاصدقاء ليس فقط في حنتوب بل حتى في المدرسة المتوسطة... ومن اصدقائي من ابناء بلدنا المناقل كان هناك علي تاج الدين ومحمد الحسن جيمس وعبد الملك وود البر وقد سبقنا مصطفى محمود مصطفى ومصطفى آدم وآدم تاج الدين وكنت كلما قلت لاحد ان صديقي بحنتوب كان علي تاج الدين يسارع ويصححني (تقصد آدم تاج الدين) وذلك لأن علي كان ولا يزال منزوياً ومسكيناً وآدم واسع العلاقات الاجتماعية مثلي وكثير الحراك..
اشكر كثيراً كل من اتصل بي من ابناء حنتوب ولهم عرفاني وما كنت ان اكتب عن حنتوب اربعة مقالات الا بعد ان امطرتني مهاتفاتهم الجميلة التي اعطتني دفعة قوية اوصلتني للمقال الرابع هذا..
وسأغادر بإذن الله بعد غدٍ لاثيوبيا لحضور احتفالاتها ببداية الألفية الثالثة حسب التقويم الحبشي وبعودتي سأكتب عن هذه الاحتفالات التاريخية.

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (3)


انبأني الصديق سعد البنا وهو من أجيال حنتوب اللاحقة بخبر وفاة عمنا الريس عبده قبل أسابيع خلت.. ورحيل الريس عبده يحرك خضماً من الذكريات الساكنة و(النوستالجيا) لدى أبناء حنتوب جاء عبده من جهة حلفا بأقصى شمال البلاد يافعاً وسيماً وارتبط (برفاس) حنتوب.. يرتدي زياً شديد البياض يشكل مع لون (الرفاس) الأبيض وبشرته السوداء اللامعة انسجاماً رائعاً ثبت في ذاكرتنا رغم توالي الحقب. أتذكره جلياً اليوم والناظر هاشم ضيف الله المهيب يجلس بتؤدة على كنب الرفاس المبطن الأبيض الفاخر وعم عبده يمخر عباب النهر الى الضفة الثانية. وقد كان (الرفاس) مخصصاً فقط للناظر والمعلمين ونحن الطلاب كنا نبحر بالبنطون العمومي نظير تذكرة يسيرة لا تتعدى القرشين بعملة ذلك الزمان.
كيف جاء الريس عبده الى حنتوب؟ ومن أي قرية من قرى حلفا بالتحديد؟ لا ندري، لكنه احتل مكانه كرمز من رموز حنتوب مثله مثل عمنا مصطفى جرس وعمنا حران فراش داخلية المك نمر الذي حصد طوال فترة عمله بحنتوب كل كؤوس النظافة، وعمنا الصول محمد محمود صول (الكديت) ذلكم الصارم العنيف المنضبط الذي كنا نقف خلفه في الطابور ترتعد منا الأوصال.
التقيت الريس عبده بودمدني في السنوات القريبة الماضية وكان يتذكرنا فرداً فرداً ونغدق له كلما التقيناه الاحترام والإجلال والعرفان أقترح عليّ سعد البنا ان نقيم تكريماً بودمدني لعمنا الصول محمد محمود آخر من تبقى من رموز حنتوب واستحسنت المقترح وسأعمل بإذن الله بالتنسيق مع القنصل مصطفى عبادي والأستاذ بلة أحمد العوض والبروف أحمد محمد علي اسماعيل وصلاح محمد عثمان يس واللواء الشيخ مصطفى واللواء شرف الدين علي مالك على ترتيب الأمر والدعوة موجهة لخريجي حنتوب للاتصال بي عبر هاتفي 09123094485 لتنفيذ المقترح.. فهي بادرة وفاء وعرفان لإنسان سلخ عمره في تعليمنا الرجولة والإنضباط، أطال الله في عمره، ويمكن دعوته للخرطوم بأسرته للتكريم إن تعذر على الناس السفر لودمدني وقد تخطى الصول محمد محمود التسعين وما زال نشطاً متحركاً يمشي في الأسواق.
"كان شيبون مع ذلك إنساناً بسيطاً
كان ريفي
كان كالسيل وكالظل الوريف
قال لي فوق ندى العشب الخريفي
والثعابين لها نحو الصديقين التفات
يا صلاح..
ما حياتي إن أنا ضيعتها دون أن أبني بناء للغد
أنا إن عشت وشعبي مرهق مستغل ثم لم امدد يدي
فأنا لست بإنسان له عيد ميلاد أنا لم أولد
هكذا غنى كمال
فلنفجر شعرنا فوهة بركان نضال"...
صلاح أحمد ابراهيم
وإشارة الشاعر صلاح أحمد ابراهيم الى العشب الخريفي والثعابين، تجسد الصورة الماثلة في الذكرى عن تلك المدرسة الوارفة الظلال الخضراء دوماً وعشبها المشبع بالندى كانت تعج بأنواع الطيور وخاصة طير الهدهد الذي اتخذته المدرسة شعارها، في الخريف كانت تكثر الهوام، وإن قارن الأستاذ الشاعر عبد الوهاب الحاج في قصيدته التي أرسلها لي بين حنتوب (وشِعب بُوان) وهي منطقة بشيراز بإيران وصفها المتنبئ بقصيدته الخالدة شعب بوان، إن قارن بين حنتوب وبينها يصدق بحق في المقارنة:
"هزبر الشام قم وأشهد جمالاً ** سليل النيل من بين المغاني
وحاشا ان تكون هنا غريباً ** ولا أهلوك غرباء اللسان
حديث الشعب فيّ أثار شجواً ** بحنتوب التي هزت كياني
منارة أمة أوفت عطاءً ** لصرح العلم فوجاً بعد ثاني
هنا الأزهار ألواناً تلاقت ** وأبدلت القتال بمهرجان
وألهبت المشاعر عن قوافٍ ** معبقة كأفواه الدنان"
مقالاتي عن حنتوب وجدت تجاوباً داوياً من زملائي من أبناء حنتوب وفيهم الذي تخرج قبلنا بعشرة أعوام.. وقد نبهني الصديق بلة أحمد العوض انني نسيت في استعراضي للشعراء من أبناء حنتوب الدكتور حسبو سليمان والشعراء عبد المجيد حاج الأمين وشمس الدين حسن خليفة ومن الأجيال اللاحقة د. عمر محمود خالد ومحيي الدين الفاتح ومن العسكريين والشرطيين الفريق بشير محمد علي واللواء الفاتح بشارة واللواء مبارك عثمان رحمة ومن السياسيين شوقي ملاسي ومحمد علي جادين ومن أهل الرياضة عصمت معني وطه صالح شريف ومحمد ابراهيم ومن أهل القانون عبد السميع عمر أحمد وعبد المحمود صالح والفاتح عووضة، وبرز في مهنة الطيران كابتن زمراوي الطيار الشهير وكابتن مكاشفي حاج الأمين وكابتن مالك ود العقاب، وكابتن سرداب وكابتن بشير سلمان وكابتن صلاح شبكة، وكابتن أحمد نصرالدين.
قال لي صديقنا بروفيسور صلاح الكارب ان المدارس الثانوية القديمة كلها خرجت الأعلام في كافة المجالات والأمر ليس وقفاً على حنتوب وحدها حتى تفرد لها المقالات. قلت نعم ولكن حنتوب تفوقت على المدارس الثانوية بتخريج الذين تبوأوا الذرى في المجالات التي امتهنوها نعم خورطقت ووادي سيدنا خرجتا الأفذاذ ولكن حنتوب تفوقت عليهما فالشاعر الفذ صلاح أحمد ابراهيم وحده يرجح الكفة. قال العلامة عبد الله الطيب وهو يقدم لديوان صلاح (نحن والردى):
(لعل صلاحاً رحمه الله تأثر ببعض نظم أستاذه كاتب هذه السطور وذلك إن صح مما أفخر به وأتشرف).. اليست هذه وحدها شهادة رفيعة المستوى. ثم حنتوب هي وحدها التي دفعت بـ (4) من خريجيها ليصبحوا مديرين لجامعة الخرطوم.
- بروفسير علي فضل
- بروفسير عمر بليل
- بروفسير التنقاري
- بروفسير عبد الملك
ووحدها التي دفعت بثلاثة من طلابها ليصبحوا رؤساء القضاء بالسودان:
- مولانا خلف الله الرشيد
- مولانا فؤاد الأمين
- مولانا عبيد حاج علي
حدثني الدكتور معتمد احمد أمين ان فريق حنتوب في زمان الخمسينيات كان لا يشق له غبار وذكر ان فريق (الهومفيد) المجري زار السودان في عام 1956م وأدى مباراة مشهورة بودمدني ضد فريق الجزيرة وفاز عليه بـ: 10 _ 1 والهدف الواحد سجله مصطفى كرار كابتن نادي الإتحاد ولعب (الهومفيد) ضد فريق حنتوب ففازت عليه حنتوب بـ 2 _ 1 وكان ضمن الفريق سيد سليم ومعتمد أحمد أمين وفارح الصومالي ومحمد الطيب عبد الحفيظ وغيرهم.
جمال حنتوب يفوق الوصف وتتقاصر عن وصفه الكلمات.. فالأشجار الظليلة والأزاهر من كل لون والعشب المشبع بالندى والعصافير المغردة كانت سمة مستدامة للموقع الذي شيّدت فيه المدرسة التي كانت حتى عهد قريب بعيدة عن العيون والطرّاق لأن وصالها لا يتم إلا بعد عبور النهر.
"فقم واسمع بنات الأيك فجراً ** أضف أخرى لرائعة الزمان
هنا الثمرات في الأغصان فاقت ** بأشربة وقفن بلا أواني
هنا الأصداء تبعث ان سمعتم ** صليل الحلي في أيدي الغواني
هنا الأفياء لا تسمح لشمس ** تلامس أو تفر من البنان
سباك الحسن في (بوان) يوماً ** ومثلك حسن حنتوب سباني"
عبد الوهاب الحاج
وصديقنا الشاعر المجيد شمس الدين حسن خليفة بارع في التصوير الشعري وهو الذي كتب نشيد العطبراوي الرائع (مرحبتين بلدنا حبابة) وهو أيضاً مؤلف الأهزوجة الجنوبية الشهيرة (سوري لي أنا كفارة لي أنت) وقد كتبها بعربي جوبا أيام كان مفتشاً للصحة بجوبا.. وقد زار شمس الدين حنتوب بعد تخرجه منها بسنوات عديدة فكتب قصيدة رائعة زخرت بكل مناشط ومعالم تلك المدرسة الواحة الوارفة:
"اليوم جئتك هل عرفت فتاك أم ** عهدي تولى مؤذناً بختام
أم هل ستعرفني الفصول إذا دنت ** في لهفة من بابها أقدامي
(يا مسجد الإسلام) ألف تحية ** كم قد شهدت تهجدي وقيامي
(وبعنبري) عند الرقاد تأمل ** وشقاوة تحلو قبيل منامي
(وبصالة المذياع) منطلق به ** يحلو الحديث برقة ووئام
بعد (اختبار الأربعاء) وماله ** من رهبة لمعارك الآلام
أما (مذاكرة المساء) فإننا ** نمضي لها في غير ما إقدام
(ونهاية الأسبوع) كانت فرحة ** وتحرر من حصة ونظام
وزيارة (الكنتين) كانت متعة ** تجلو صدا الأرواح والأحلام
(والقهوة) انتقلت بنا من عالم الجد ** الرهيب لعالم بسام
وإذا (الحوالة) شرفت فمساؤنا ** عيد لنا وافى بكل مرام
أنظر (لصالون الحلاقة) بارزاً ** كالمنتدى في ضجة وزحام
أما (العيادة) فالسعيد يزورها ** يوم اختبار ينتهي بسلام
يا (يوم آبائي) أراك مجسداً ** يا مهرجان العلم والاعلام
(يا ملعب التنس) الأنيق تحية ** للمضرب البني والهندام
و(الهدهد) المختار صار علامة ** مرموقة رفعت مع الاعلام
حتى (التلسكوب) العتيق وجدته ** في صمته يحكي أدق كلام
لا زلت أذكر في الخريف تفتح ** الأزهار بين نسائم وغمام
ولرحلة (الرفاس) ذكرى حلوة ** ولعهدها أبداً فؤادي ظامي
(وسباق ضاحية) إذا ندعى له ** تتنوع الأعذار في استرحام
حضر الرئيس فلا مجال لهارب ** إن الحضور مقيد بتمام
والشجرة الشعثاء نركض نحوها ** متهالكين ومجهدي الأجسام"
واكتفى من رائعة شمس الدين بهذه الأبيات وهي كفيلة بان تهيج الذكرى والحنين لدى كل خريج من حنتوب يطلع على هذ المقال. وعلى ذكر التنس وهي لعبة ارستقراطية أذكر الآن جلياً أحمد الصائم وتفوقه المدهش في هذه اللعبة وأهل القطينة تحضروا قبلنا نحن أبناء قرى الجزيرة لذا كنا نكتفي في التنس بالاستمتاع بالحضور والنظر لود الصائم وهو يتألق جيئة وذهاباً وركضاً وعدواً فيوسع الخصم بالضربات الذكية.. كان ود الصائم ولا يزال أنيق الملبس راقياً متحضراً ولما ساقني الزمان بعد ثلاثين عاماً من حنتوب محافظاً لبلدهم وجدت إخوانه بذات الأناقة والرقي.
هذه ثرثرة عن حنتوب تلك الخميلة التي قضينا بها أزهى أيام عمرنا.. سن العمر الحلوة التي دون العشرين قليلاً وقديماً وصف شكسبير هذا العمر بالحلاوة Sweet Age Of Twenty وخرطة بناء حنتوب هي خرطة وادي سيدنا وطقت إلا أن حنتوب ظفرت بالشاطئ والإخضرار ولم يكن هذا حال طقت ووادي سيدنا. وقد نقل ـ والعهدة على الدكتور معتمد أحمد امين والبروف أحمد محمد علي اسماعيل ـ الشاعر السر دوليب من وادي سيدنا الى طقت ومعه من حنتوب بكري عديل والفاتح بشارة وراجت في تلك الأيام أغنية للفنان الكبير الخير عثمان جاراها الناس بإضافة بيت يقول:
الوادي ضجت"
وحنتوب احتجت
والسبب الثلاثة الودوهم طقت".. فتأمل بالله كيف كان المجتمع يتابع ويتجاوب مع ما يدور في تلك المدارس الجامعات.
أختم حنيني وذكرياتي عن حنتوب آملاً ان يكون قد إطلع عليها زملاؤنا في ذلك الزمان والزمان الذي قبلنا وبعدنا.
"ما أعذب الذكرى صداها نشوة ** في حضننا ننسي لظى الآلام
لكنها تمضي الحياة وتغمر الأحداث ** ما قد فات في إرغام
وتفرق الأصحاب حين تفرقت بهم ** الحياة ودورة الأيام
واختار كل في الحياة طريقه ** يسعى لغايته بلا استجمام
لكنها الذكرى ستبقى حية ** رغم اختلاف مناصب ومرامي"
بمنزلي لوحات تزين حائط منزلنا من كل ناحية أحبها الى نفسي لوحة عليها صورة الهدهد ومكتوب عليها الى صديقنا ابن حنتوب كامل عبد الماجد إهداء من البروفيسور مهدي بشرى والأساتذة الأحباب الطيب جمال الدين ومصطفى جمال الدين وخالد تلاتين وهم أعز الأصدقاء أضف لهم البروفيسور مصطفى محمد سليمان والفاتح إمام ود.حاتم حلواني ود.محمد عثمان ابراهيم.. لهم ولجميع أبناء الدفعة محبتي وودادي وتحياتي. أشكر السفير عثمان السيد لمتابعته مقالاتي وليت لو كتب د. ود الريح أو د. كامل ابراهيم حسن عن خورطقت والشكر للصديق صلاح محمد عثمان يس الذي استضاف تجمعاً تأريخياً لأبناء حنتوب العام الماضي في النادي العائلي (أبولو) الذي يرأسه. ووصلتني رسالة رقيقة من الفريق شرطة أحمد محمد عثمان ، عن حنتوب، سأنشرها قريبا بإذن الله.
أنوي بإذن الله مع الأستاذ احمد طه حضور احتفالات اثيوبيا أول الشهر القادم بالألفية الثالثة وسأخصص مقالات قادمة في الثرثرة عن تلك الاحتفالات.

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (2)

أدركت دفعتنا عهد الناظر المربي أحمد حسن فضل السيد وكان رقيقاً في إدارته يمشي في الناس بالحسنى والتي هي أحسن وقد بدأنا دق المعالق في عهده ولم ينفع معنا نصح ولا رجاء، ولا حسنى، وكان تهشيمنا في كل وجبة لقرابة الألف ملعقة يندرج في باب (الشبع) ليس إلا.
ويقولون إن الاسماك حين تشبع تقفز إلى خارج النهر، فالأكل المقرر لنا بحنتوب لم نكن نجد مثله عند أهلنا وجلنا أولاد طبقة وسطى وفقراء ومعظمنا أتى من القرى التي كان ينعدم فيها حتى الخبز دعك من السمك والفول والباسطة، كان الناظر أحمد حسن فضل السيد يحدثنا في اجتماع المدرسة أن كل شيء يسير على ما يرام، النشاط الدراسي والرياضي والمدرسة نظيفة والانضباط تام (بس يا أبنائي وقفوا دق المعالق.. كدا بتضروا مدرستكم، وبلدكم) وكان حاله معنا يتمثل في بيت الشعر: ترى أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.
نخرج من الاجتماع، إلى الحصتين الصباحيتين ثم مباشرة إلى الافطار ودق المعالق، ذهب استاذنا أحمد حسن فضل السيد وجاء استاذنا ونجت برسوم لفترة قصيرة والحال في حاله، حتى جاءنا ناظراً الطود التربوي الرياضي الكبير هاشم ضيف الله ووقف على خشبة اجتماع المدرسة بجسم رياضي سليم يرتدى شورطاً أبيض وفنلة رياضية بيضاء وحذاءً رياضياً أبيض بشرابات بيضاء طويلة، كنا نجلس في الاجتماع على النجيلة والناظر والاساتذة في الكراسي على المسرح، حدق فينا الناظر الجديد ملياً لأكثر من أربع دقائق دون أن ينبس ببنت شفة مما أدخل فينا ما يشبه الارتعاب ومشاعر الخوف والحيطة، ثم خاطبنا: "ميادين المدرسة مهلهلة خاصة ميادين السلة والتنس وكرة اليد ونجايل كرة القدم دايرة تجديد، لكن مافي مشكلة ما دام قاعدين تدقوا المعالق.. إذاً مافي استاذ عندو ليكم كلام، ممكن تنصرفوا"، وانصرفنا والحيرة تفترس تفكيرنا.. ما علاقة دق المعالق بميادين الرياضة؟!، ذهبنا للفطور وبدأنا ندق المعالق لم تلفت انظارنا الساعة الحائطية الكبيرة التي علقت بالسفرة لتحسب زمن الدق، وقد كان خمس دقائق.. تناولنا الافطار اثناء ضوضاء تهشيم المعالق واتجهنا للفصول فوجدناها موصدة وعلى أبوابها بوستر كبير به توجيه للطلاب بمغادرة المدرسة إلى ذويهم لاتمام الأمنية من كل طالب، وهي 15 جنيهاً، تم خصم 10 جنيهات منها بواقع 2 جنيه لكل دقيقة في دق المعالق، وتمت الاشارة في البوستر إلى أن البنطون سيعمل في ترحيل الطلاب لمدني 24 ساعة، "فبهت الذي كفر"، نعم بهتنا جميعاً وما اصعب الذهاب للأهل في ذلك الزمان في موضوع يتعلق بالمال، تأبطنا شنطنا البائسة وذهبنا لاهلنا وعدنا بعد قرابة شهر توقفت فيه الدراسة لتأديبنا وحين اكتمل رجوعنا وقف الاستاذ هاشم ضيف الله يخبرنا أن الاستقطاع كان مفيداً (جددنا به شباب الميادين) ويطلب منا المزيد من دق المعالق، ولكن بعد ذلك صمتت المعالق للابد في حنتوب، كان هاشم ضيف الله طوداً راكزاً في التربية والوطنية والانضباط ترك بصمة في أبناء جيلنا لا تمحوها الأيام ولا يبليها الدهر.
علمنا التهذيب والتحضر والابتعاد عن ساقط القول، والفعل، وحببنا في الرياضة التي كان يتعشقها بصورة اسطورية لا حدود لها، اسقط عن تيم كرة القدم الأول وأنا منه المصاريف الدراسية ووضع لنا منضدة عالية سميت high table تقدم لنا فيها مأكولات فنادق الخمسة نجوم، وأذكر أنه قال لنا في آخر اجتماع قبل التخرج (لو لاقيتوني في دروب الحياة الواحد يقول اسمه وكان بلعب شنو) والحديث عن استاذنا الكبير الراحل هاشم ضيف الله يطول ولا تحيطه مثل مقالاتي هذه، كل من يكتب عن حنتوب يقفز عاجلاً للشخصيات التي تخرجت فيها ويذكر النميري والترابي ونقد وما درى الكثيرون أن ارتالاً من الشخصيات المهمة الأخرى خرجت من هناك حتى ليخيل لي والله أن متعلمي السودان كلهم تخرجوا منها، ومن ضمن زملائنا بنادي الخرطوم صديقنا البروفسير أحمد محمد علي اسماعيل الذي يدرس بالأحفاد وهو من خريجي حنتوب والاصدقاء بالنادي يهتمون بمقالاتي وأكثرهم اهتماماً البروفسير أحمد والصديق التاج سليمان وقد امطرني البروفسير أحمد بوابل من الخريجين بذاكرة صافية لا يحيط بالطبع مقالي هذا بأسمائهم والقائمة التي تضم رهطاً كبيراً من مرموقي الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية في البلاد قائمة طويلة وتضم فيما تضم ثلاثة من الذين تبوأوا في مقبل الأيام منصب رئيس القضاء هم: مولانا خلف الله الرشيد ومولانا عبيد حاج علي، ومولانا فؤاد الأمين عبدالرحمن ومنصب رئيس القضاء إن عملت البلاد بنهج فصل السلطات يوازي منصب رئيس الجمهورية، كان ناظرنا الهمام هاشم ضيف الله رقيقاً ليناً معنا فرادى، إن دخلت عليه في المكتب لأمر يخصك عاملك برفق وابوة وطول بال، وحسن استقبال وإن خاطبنا جماعة مثلما يفعل في اجتماع المدرسة كان كالأسد الهصور، وكان نهج استاذنا الناظر أحمد حسن فضل السيد عكس هذا تماماً، يبدي لنا الاطراء ونحن جماعة ويتعسف معنا ونحن فرادى.
ومن خريجي حنتوب في مجال الشعر صلاح أحمد إبراهيم وصديقه شيبون والنور عثمان أبكر، ومحمد عبدالحي، وعمر عبدالماجد والزين عباس عمارة، والجيلي عبدالمنعم، وأبوآمنة حامد، وعبد الواحد عبد الله.
وشيبون صديق صلاح أحمد إبراهيم لم يخلف قصائد ولا ديوان شعر ولم نعرف عنه شيئاً إلا في قصائد صلاح:
"كان شيبون صموتاً
كان غاباً ملؤه الثوار يخفون سلاح
كان ليلاً عبقري البوح مشحوناً صباح
قلبه كالوردة الحمراء دامي الانفتاح
بجراح فجراح فجراح فجراح
كان شيبون له الشعر خميلة وله الشعب قبيلة
كان ريفي
كان كالسيل وكالظل الوريفي"
والنور عثمان أبكر شاعر مجيد أصدر ديوانه الأول (صحو الكلمات المنسية) وهو من رواد التغيير في الشعر، وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء مع محمد المكي إبراهيم وعبدالحي.. وقد كان عبدالحي عبقري زمانه بلا منازع وشاعر لا يشق له غبار:
"اقرعي في عتمة الصمت المدوي
يانواقيس الرياح الأربعة
علَّ ذاك الميت يصحو
ويغني تحت شمس ساطعة"
وأبو آمنة الذي قضى بحنتوب عامين هو صاحب ديوان (ناصريون نعم) وأغنيات (سال من شعرها الذهب) و(وشوشني العبير)، و(مانسيناك) و(بنحب من بلدنا) وغيرها من روائع شعر الغناء، عمل بالبوليس ضابطاً ثم انتقل للعمل الإعلامي ملحقاً إعلامياً بالقاهرة وعاد للسودان وظل لردح طويل من الزمان بلا عمل ولا مصدر دخل حتى مضى إلى ربه قبل أشهر خلت أفقر ما يكون وأبأس ما يكون وهكذا حال جل أهل الفن ببلادنا، والزين عباس عمارة مقتدر في مجال الشعر وعبقري في مجال تخصصه الطب النفسي وقد أقام للطب النفسي صرحاً في دولة الإمارات، ودرب من أبناء الإمارات المئات ولما ادركه المعاش استبقته دولة الإمارات مستشاراً في مجال الطب النفسي، وقد عبر عن الصرح الذي شيده للطب النفسي هناك في حفل تكريمه بأبي ظبي:
"وصعدت في درج المعالي قمة وكأنني سافرت في غيماتي
واليوم أكتب صفحة في سيرتي وأخبر التاريخ موقع ذاتي
وأرى طريقي واضحاً خططته وحسبت في مشواره خطواتي
وأقول للتاريخ مهلك لحظة هذا زماني فأتني برواتي
شيدت في قلب الخليج منارة علمية عصرية الوحدات
ومدينة للطب في ارجائها يتناقش العلماء في الندوات
في حوزة علمية ليست لها أخرى تضاهيها على الساحات
شهدت لها كل العواصم موجة عبر الفضاء تبثها قنواتي
فأبحث عل كل المداخل حكمتي وارسم على جدرانها لوحاتي
دعني اودعكم وداع احبة واقول هات من المزيد وهات
قدر الرجال إذا تقدم عمرهم يترجلون كفارس الحلبات
ويلوحون مودعين جيادهم متطلعين إلى الرعيل الآتي"
أما عبدالواحد عبدالله فهو صاحب (اليوم نرفع راية استقلالنا)، و(احبابنا أهل الهوى)، وقد تقلد منصب مدير الاذاعة ثم هاجر خبيراً دولياً منذ ردح من الزمان.
ارسلت إبان عام الخرطوم عاصمة للثقافة العربية تذاكر سفر درجة أولى لعدد من شعراء بلادنا بالخارج وفيهم الزين عباس عمارة ومبارك حسن خليفة والنور عثمان أبكر، وخالد فتح الرحمن والسر أحمد قدور، وذلك للمشاركة في الليالي الشعرية لبى جميعهم الدعوة واعتذر النور عثمان أبكر، وقبل موعد حجزه وصل الزين عمارة على حسابه لم ينتظر تذاكرنا ونعمنا بصحبته الراقية من جديد.
دوائر ومجموعات متعددة من أبناء حنتوب يتجمعون شهرياً ويتصل ودادهم وقد اشتعلت الرؤوس شيباً وتزوج عيالهم وأضحوا اجداداً لاحفاد..هنالك مجموعة استاذنا الإداري الفذ أبوكشوة الذي تتلمذنا عليه في إدارة الحكم المحلي واللقاءات بينه وبين أبناء جيله من خريجي حنتوب تتم بمزرعته الرائعة بسوبا، وهناك مجموعة آدم تاج الدين وهناك مجموعة شرف الدين علي مالك، ومصطفى عبادي وعاصم مغربي وفؤاد أحمد مكي عبده والفاتح علي موسى ومحمد الفال، وإبراهيم الجمل.
والسؤال هل يعيد الدهر لنا من جديد طعم تلك الأيام الزاهية؟!.
من ابناء حنتوب الذين امتهنوا السياسة نقد والترابي وعمر نورالدائم وأحمد إبراهيم دريج وصلاح عبدالسلام الخليفة وشريف التهامي، وفاروق أبوعيسى، ومأمون سنادة، ومحمد يوسف محمد، والرشيد الطاهر وأحمد عبدالحليم، وجعفر شيخ إدريس وعثمان خالد مضوي والطيب أبوجديري وحامد الأنصاري وبابكر كرار، ومجذوب الخليفة وغيرهم، وغيرهم، فتأمل.
كان استاذنا الراحل العظيم هاشم ضيف الله يصف تصرفاتنا غير اللائقة بتصرفات (الاهالي) باعتبار أن الأهالي بسبب اميتهم لا يعرفون التصرف الحضاري، وهاشم ضيف الله أكثر من رأينا تحضراً وانضباطاً ورقياً، ومن القصص الطريفة عن هاشم ضيف الله أن الاستاذ حسبو استاذنا للفنون قال له مرة: "يا استاذ هاشم انت نص عمرك ضائع لأنك ما حصل اكلت فول"، وكان رده: "يا استاذ حسبو اعفيني من حاجات الأهالي دي"، ولكن استاذ حسبو ظل يلاحقه ويلح عليه أن يشاركهم بود مدني وجبة فول فوافق الناظر على مضض وكانت مطاعم الفول في ود مدني من أرقى ما يكون خاصة (أبوظريفة).
دخل الاساتذة ومعهم صيدهم الثمين هاشم ضيف الله المطعم، وقد تلفت يمنة ويسرى حتى لا يشاهده أحد ودخل باستحياء وتوجس واستاذ حسبو سعيد بنصره المؤزر، وبعد جلوسهم على المنضدة خاطب الاستاذ حسبو الجرسون: "اعمل لينا ثلاثة فول وظبتم"، فصاح الجرسون بصوت عالٍ للطباخ وهو يبعد منه كثيراً: "ثلاثة فول وظبطم"، فامسك به الاستاذ هاشم ضيف الله من تلابيبه قائلاً: "ياخي الفضائح شنو انت الطباخ دا موش حتمشي تجيب منه الفول.. ما تقول ليهو الكلام بعد ما تصلو".
كان يسألنا (بتاكلوا التسالي ليه.. في إنسان متحضر بياكل تسالي.. أنتو أهالي؟) رحم الله أستاذنا الكبير هاشم ضيف الله الذي علمنا التحضر والتهذيب والانضباط وحب الوطن.
ومن أبناء حنتوب الذين شغفوا بكرة القدم لعباً وإدارة كمال شداد وسيد سليم وطه علي البشير وإبراهيم محجوب ومعتمد أحمد أمين الذي أضحى وزيراً للصحة وخبيراً بالأمم المتحدة.. ومن لعيبة الكرة الأفذاذ في زماننا مصطفى أحمد المصطفى الذي كانت تتغنى باسمه جماهير المريخ. ومن الذين أضحوا من مشاهير الأطباء بالسودان من خريجي حنتوب د.عمر بليل ود.زاكي الدين محمد ود.حداد عمر ومن الجيل اللاحق د.يعقوب عبد الماجد ود.كمال أبو سن ويعقوب يجمع الفن والطب معاً، ومن مشاهير أهل القانون شدو ودفع الله الرضي ود.أمين مكي ود.التجاني الكارب وفاروق أبو عيسي ومن الذين اصابوا المال والثراء فتح الرحمن البشير وأمين أحمد عبد اللطيف ومن الأكاديميين الذين تخرجوا من حنتوب عبد الملك محمد عبد الرحمن وعمر الأقرع ومحمد الحسن الجاك، وصلاح الكارب والنعمة إبراهيم وعلي فضل وأحمد محمد علي إسماعيل ومن الذين ارتادوا العسكرية والشرطة عوض سلاطين وهمرور والصادق محمد الحسن وعبد الحميد عبد الماجد وعبد البديع علي كرار وخالد الأمين وعزالدين علي مالك وشرف الدين علي مالك والشيخ مصطفى وهاشم حسب الرسول وغيرهم.
هذا المقال يضيق عن أبناء حنتوب وكلهم أسهم في تطور بلادنا في مجاله وكلهم بذل وتفانى في خدمتها منهم من ذهب إلى ربه ومنهم من لا يزال يغدق العطاء لبلاده، ومنهم من أقعده العمر وقد بذل واعطى.. للذين لم نورد أسماءهم سهواً اعتذارانا. وحنتوب لم تكن لأبناء السودان وحدهم كان معنا أبناء حضرموت واليمن والصومال وأثيوبيا وحدثني بروفيسور صلاح الكارب ان أول سفير للصومال بالسودان هو عبد الرحمن محمد وكان دفعتهم بحنتوب. فتأمل، من بالله أعلن النعي على ذاك الزمان؟.
وافاني الأستاذ الفاضل عبد الوهاب الحاج بالرسالة الرقيقة أدناها وشفعها بقصيدة في وصف حنتوب يجاري فيها المتنبي في قصيدته "شِعب بوان" وقد أدهشتني شاعريته وحذقه للنظم وسوف أنشر القصيدة بإذن الله في حنتوب (3) الأسبوع القادم.
الأستاذ كامل عبد الماجد
لك التحايا والود تابعت ذكرياتكم العطرة عن حنتوب الجميلة وأتواصل مع تلك الثرثرات الثرة والذكريات العبقة الأنيقة على صفحات السوداني تحفة الجمعة الحافلة بالأقلام الرشيقة والكلمات المترعة لقد أعادتني ذكرياتك عن حنتوب إلى لحظات رائعة أتاحتها لنا فترة تصحيح الشهادة السودانية بتلك الروضة الغناء مع كوكبة من أفذاذ المعلمين "منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" شعراء وأدباء برعوا في تلك الأمسيات وخلال مساجلاتهم وندواتهم الأدبية على منبرهم المسمى "السقيفة" .
لقد ساقتنا المقادير سوقاً إلى حنتوب ، وبهرنا فيها جمالها واخضرارها وطبيعتها الخلابة ، ولأن الحديث ذو شجون – وبينما كنا عصراً على تلك الرمال الذهبية لذلك الشاطئ النضر تذكر البعض رائعة أبي الطيب "مغاني الشعب" وما الذي رآه أمير القوافي هنالك ليبدع تلك اللوحة الجميلة عندما ساقته المقادير أيضاً إلى تلك البقاع ؟
وماذا كنا سنسمع إذا قدر لشاعر العربية الفذ ، ونايها الطروب ، وقيثارتها التي عزفت أروع الألحان وأعذبها وأخلدها – إذا قدر له أن يرى كل هذا البهاء والألق بحنتوب ؟.
وعندما تجرأ البعض مقترحاً مجاراة لأبي الطيب ومضاهاة "لشعب حنتوب بشعب بوان" وكان نصيبي هذه الخاطرة المرفقة – ولأبي الطيب العتبى حتى الرضاء ، ولك ولأولئك الأخوة الأجلاء ولحنتوب الجميلة كل الحب والشوق على أمل اللقاء.
عبد الوهاب الحاج
الارتقاء الثانوية بحري
والشكر للأصدقاء بروف أحمد محمد علي إسماعيل بجامعة الأحفاد الذي أحاطني بمعظم ما أوردت من أسماء والشكر أيضاً لأخي آدم تاج الدين والتهنئة للأستاذ أحمد طه لزواج ابنته عزة والتهنئة للشاعر الكبير مبارك حسن خليفة لزواج ابنه، وقد أخطأت حين هنأت صديقنا الحميم إبراهيم يوسف حامد بزواج كريمته والصحيح زواج نجله أكرم له اعتذاري ومبروك لأكرم وعروسته ولإبراهيم واسرته.

حنتوب الجميلة بقلم الشاعر كامل عبدالماجد (1)

كانت في زمانها مثل جامعة (أوكسفورد) ذيوعاً وصيتاً.. دخلناها دخول الظافرين بعد منافسة حامية الوطيس. ففرص الدخول للثانويات العريقة لم تكن مشرعة الأبواب في ذاك الزمان. المذاكرة في المدارس الوسطى بلمبات الكيروسين. الكل يتأبط لمبته وينتحي مكاناً شرقياً في فناء الداخلية وفول العشاء كان طاعماً والجبنة في أول ظهورها لم تعرف بعد طريقها الى الفول والداخليات. كنا والبنطون يمخر بنا النهر منها أو إليها نحس بزهو عجيب وإذا عدنا لأهلنا في الإجازات نمشي الخيلاء. هي جميلة بحق وهي من جنان الله في الأرض:
للنيل باقية شامة
والهدهد علامة
ومنسق نظامة
وفي تقدم دواماً
ود القرشي
أخبرني الفنان الراحل الخير عثمان أن اغنية حنتوب الجميلة كتبت ولحنت في بضع ساعات في الأمسية التي سبقت احتفال المدرسة بيوم الآباء. (جاءنا بمدني كعادته الشاعر المغني الفذ ود القرشي فتحلقنا في تلك الأمسية حوله احتفاءً وترحيباً نستمع لجديده من الشعر والألحان. كان ذاك بمنزل صديقه ضابط البلدية.. صدح وصدحنا بالأغاني الجديدة وقطع علينا الفناء ضابط البلدية يخبرنا أن احتفال حنتوب في الغد ولابد من مشاركة.. فصمت ود القرشي لهنيهة ثم تغني (حنتوب الجميلة.. الجميلة الجميلة) وطفق يؤلف ويلحن وأنا أردد بعده.. وفي أمسية الغد أعتليت مسرح حنتوب أشدو بحنتوب الجميلة.
هنا فيها الآداب
وهنا فيها الشباب
والعامل لوطنه
ما داير ثواب
تلك كانت أيام. جاءني بمكتبي الأسبوع الماضي شخص مهذب يمشي على استحياء يتأبط مخطوطاً فريداً عن حنتوب وذكرياته القديمة بها.. الأستاذ النور موسى العظيم الذي عمل أستاذاً للفنون بحنتوب في الفترة من عام 1973 _ 1978، أهاج كتابه الذي احتشد بالكثير من الصور الفوتوغرافية للمدرسة والعاملين القدامى بها الحنين الى زماننا بحنتوب:
منظرها البديع
ما أروع جلالو
تعجب حين تزورو
وتجلس في ظلالو
جاء هذا الأستاذ لحنتوب بعد زهاء ثمانية أعوام من فراقنا لها وحين فارقها الشاعر الفذ حميدة أبوعشر صدح: (وداعاً جنتي الغناء وداعاً معبدي القدسي) قلت لصديقي أحمد طه إن شدا الكاشف بقصيدة من تأليف نجار المدرسة من الطبيعي ان تتغنى كوكب الشرق أم كلثوم بقصيدة من تأليف رئيس شعبة اللغة العربية الهادي آدم.
كان ذاك عزيزي القارئ زمان العمالقة..
في عام 1947م اكتمل بناء حنتوب وفي حشد بريطاني سوداني مهيب يتقدمه المستر هدلستون حاكم عام السودان والمستر س. و. وليامز مدير المعارف تم افتتاح المدرسة الثانوية التي أضحت في مقبل الأيام الأكثر شهرة وذيوعاً في السودان وخارج السودان تم تعيين المستر لي براون كأول ناظر للمدرسة ثم توالى على المنصب عقد من التربويين نضيد:
1- أحمد بشير العبادي
2- حسن أحمد الحاج
3- أحمد حسن فضل السيد
4- هاشم ضيف الله
5- عبد الباقي محمد
6- محمد صالح محمد
7- توفيق أحمد سليمان
8- الأمين كعورة
9- محمد أمين فرحات
وغيرهم من أساطين التربية ببلادنا، وقد حضر أبناء جيلي فترة الناظر أحمد حسن فضل السيد وقد خلفه لفترة قصيرة الناظر ونجت برسوم ثم جاءنا الطود الشامخ هاشم ضيف الله وكان ضمن أساتذتنا عدد مقدر من الأساتذة البريطانيين أذكر منهم مستر مور ومستر أسبيد ومستر تينتون ومستر روشستر ومن بين السودانيين الأساتذة الأجلاء الهادي آدم، محمد سعيد القدال، إبراهيم الزين صغيرون، حمد النيل الفاضل شيخ الجاك، عبد الرازق الطيب، محمد الشيخ مدني، وقد جاءنا محمد الشيخ يافعاً لا يزيد علينا عمراً إلا قليلاً وكان كمبيوتراً بشرياً ماشاء الله في الرياضيات من العسير متابعة الحصة خاصة لأمثالي الذين يمقتون الرياضيات ويداومون فيها على السقوط. وقد سأل حسين خوجلي أستاذنا محمد الشيخ عن أدائي في الرياضيات فأجاب: كان بليداً في الرياضيات والتقيته بعدها وابتدرته: يا أستاذنا الفضائح شنو؟ ألم أكن مبرزاً في الأدب العربي والإنجليزي؟ أجاب إجابة رياضية قائلاً: (السؤال كان محدد). وعلى ذكر الأساتذة الذين تعاقبوا على حنتوب لابد لي أن أشير الى القامات السامقة الأولى التي تشرفت بها المدرسة:
- الأستاذ أحمد محمد صالح الشاعر الضخم وصاحب نشيد العلم.
- الأستاذ النصري حمزة
- الأستاذ نصر الحاج علي
- الأستاذ عبد الحليم علي طه
- الأستاذ أمين زيدان
- الأستاذ السني عباس
- الأستاذ عبد العزيز العتباني
- الأستاذ ادريس البنا
فتأمل بالله عليك هذه الشخصيات التي خرجت من هناك للمناصب الرفيعة مثل مدير جامعة الخرطوم ومجلس السيادة والوزارة وغيرها. كان ذلك زمان العمالقة. وعلى ذكر أستاذنا الجليل المستر مور أشير الى موضوع مؤثر حدث لي معه من حيث لا يدري فقد كنت ضابطاً في أوائل التسعينيات لبلدية ود مدني جاءني منه خطاب معنون. ضابط بلدية ودمدني. دون أن يدري ان الضابط أحد تلاميذه يقول فيه أنه كان استاذاً في الستينيات بحنتوب وهو وزوجته الآن في استراليا في المعاش ويذكر ان له ابنة توفيت وعمرها عامين بلدغة عقرب بحنتوب وقبرت بالمقبرة المسيحية بمدني ويفيدني برغبتهم هو وزوجته للحضور لمدني لنقل رفاتها ورسم لي خارطة بموقع قبرها واسمها عليه. ولقد أحزنني وأثرني كثيراً خطابه وبذلنا مجهوداً للعثور على القبر الذي عفت عليه السنوات والسوافي ولم تظفر به فكتبت اليه خطاباً عرفته فيه بأنني أحد تلاميذه وأفدته بعدم عثورنا على مكان قبر ابنته وأبديت له ترحيبنا بهم إن رغبوا في الحضور الى ودمدني. فانظر الى وفاء البعض في هذه الدنيا الفانية، رجل وزوجته في عمر التسعين يتذكرون ابنتهم بنت العامين التي رحلت عنهم في قلب أفريقيا.
كانت حنتوب ورصيفاتها طقت ووادي سيدنا في مصاف الجامعات العريقة والذي ميز تلك المدارس النظام البريطاني الحديدي الذي يقوم على الوقت. ليس هناك دقيقة تهدر دون منشط، حتى النوم يعد من النشاطات له ساعة يقرع فيها الجرس وتطفأ الأنوار، وما ميزها أيضاً جمعها للطلاب من كل فجاج الوطن بما يرسخ مفهوم الوطن الواحد والوحدة.. والوحدة ليست شعارات ولا خطباً سياسية ولا قصائد، ولكنها المعايشة بأن تضم الداخلية أولاد الشرق والغرب والوسط والشمال والجنوب باختلاف أعراقهم وعاداتهم. كان معنا أيضاً ابناء حضرموت والصومال وإثيوبيا ومنهم من شغل ببلاد ه منصب الوزير. والسؤال: من ألغى تلك المدارس السودانية العريقة ولماذا؟ هل ضاقت على كليات التربية أرض المليون ميل مربع؟
يتحدث مؤلف كتاب حنتوب عن منصة جرس حنتوب الشهيرة وعن المسرح وميادين الرياضة والداخليات والأزاهر والاخضرار وعمال المدرسة وأشهر الخريجين والجرس الشهير الذي اشتهر به عمنا مصطفى جرس عامل قرع الجرس جئ به من الحرب العالمية الثانية ومن دقة عمنا مصطفى جرس وخبرته الطويلة انه كان يقرع الجرس دون ان ينظر لساعته أو ساعة المدرسة. وقد تبقى من عمال مدرستنا المشاهير على قيد الحياة أعمامنا الصول محمد محمود صول التدريب العسكري والريس عبده سائق رفاص المدرسة، وقد بلغ عمنا محمد محمود سعد الـ 91 وما زال بقامته الممشوقة الرياضية ووقفته العسكرية أطال الله في أيامه.
يزعم الأستاذ النور موسى مؤلف كتاب حتنوب إن رئيس الوزراء البريطاني جيمس براون هو ابن مستر براون ناظر حنتوب الشهير، ومنزل مستر براون هو المنزل نمرة 10 وتم ترقيمه هكذا على غرار رقم مقر رئيس الوزراء البريطاني في شارع (داوننق) بلندن وإن صح قول مؤلف الكتاب ان جيمس براون ولد بالمنزل رقم 10 بحنتوب يكون من صدف الحياة ان يحتل جيمس براون الآن (داوننق استريت رقم 10).
والحديث عن حنتوب وذكرياتنا بها يطول ولا يحيطه مقال واحد، وأعد القراء بمقال ثانٍ أفصل فيه عن أشهر أبناء جيلنا وأشهر خريجي حنتوب.
يدخل الأستاذ أحمد طه محرر عدد الجمعة في خضم زواج الكريمات وتبدأ أفراح زواج كريمته يوم () والدعوة نوجهها لمعارفه وأصدقائه وأصدقائنا عبر الصحيفة لأن من العسير ايصال الكروت لكل شخص، والتهنئة مقدماً للجنرال.
التهنئة للصديق محجوب بطري بمناسبة زواج اثنين من كريمات آل البطري خلال هذا الشهر، ندى حيدر والدكتورة سارة زكريا. والتهنئة تمتد للصديق ابراهيم يوسف حامد لزفاف كريمته وصديق عبد الله لزواج ابنه طارق.
مع تحياتي

حنتوب باقلامهم

حنتوب الجميلة اشتهرت بالمدرسة الثانوية أكثر ما اشتهرت ولانها كانت من بدايات التعليم الثانوى فى السودان اضافة الى مدارس خورطقت ووادى سيدنا فقد خرجت الكثير من قادة العمل السياسى والعسكرى والادبى وفى كل المجالات تقريبا تجد خريجو حنتوب حتى خارج السودان حيث كان يدرس لفيف من ابناء حضرموت واليمن والذين تبوأوا مناصب عليا ...
من اعلام خريجى حنتوب الشاعر الغنى عن التعريف كامل عبد الماجد والذى قام بكتابة سلسلة مقالات عن حنتوب وساسمح لنفسى بنقلها دون الرجوع اليه لعدم علمى بهاتفه او وسيلة اتصال به وارجو ان يسامحنى فى ذلك النقل فهو كتب ذكريات جميلة يحق للكل ان يطلعوا عليها وانا اساهم فى نشرها لتمديد مساحة الاطلاع عليها ثانية ...

اغنية حنتوب الجميلة للخير عثمان

http://www.youtube.com/watch?v=lmPNqZFJtGY